فصل: فصل في اللغة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سر الفصاحة **


  فصل في اللغة

اللغة عبارة عما يتواضع القوم عليه من الكلام أو يكون توقيفاً‏:‏ يقال في لغة العرب‏:‏ أن السيف القاطع حسام‏.‏

أي تواضعوا على أن سموه هذا الإسم‏.‏

وتجمع لغة على لغات ولغين ولغون‏.‏

وقد قيل في اشتقاقها أنها مشتقة من قولهم‏:‏ لغيت بالشيء إذا أولعت به وأغريت به‏.‏

وقيل‏:‏ بل هي مشتقة من اللغو وهو النطق‏.‏

ومنه قولهم سمعت لواغي القوم أي أصواتهم‏.‏

ولغوت أي تكلمت‏.‏

وأصلها على هذا لغوة على مثال فعله‏.‏

فأما قولهم‏:‏ في لغة بني تميم كذا وفي لغة أهل الحجاز كذا فراجع إلى ما ذكرناه‏.‏

والمعنى أن بني تميم تواضعوا على ذلك ولم يتواضع أهل الحجاز عليه والصحيح أن أصل اللغات مواضعة وليس بتوقيف وإنما أوجب ذلك لأن توقيفه تعالى يفتقر إلى الإضطرار إلى قصده والتكليف يمنع من ذلك‏.‏

وإنما افتقر إلى الإضطرار إلى قصده لأنه أن أحدث كلاماً لم يعلم أنه قد أراد بعض المسميات دون بعض ولو إقترن بهذا الكلام إشارة إلى مسمى دون غيره‏.‏

لأنا لا نعلم توجه الكلام إلى ما توجهت الإشارة إليه وإنما يعلم ذلك بعضنا من بعض بالإضطرار إلى قصده وتخصص الإشارة بجهة المشار إليه لا يعلم بها هل الأسم للجسم أو للونه أو لغير ذلك من أحواله‏.‏

وأما إذا تقدمت المواضعة بيننا وخاطبنا القديم تعالى بها علمنا مراده لمطابقة تلك اللغة‏.‏

وقد يجوز فيما يعد أصل اللغات أ يكون توقيفاً منه تعالى لتقدم لغة عن التوقيف يفهم بها المقصود‏.‏

وقد حمل أهل العلم قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وعلم آدم الأسماء كلها ‏"‏ على مواضعة تقدمت بين آدم عليه السلام وبين الملائكة على لغة سالفة ممن خاطبه الله تعالى على تلك اللغة وعلمه الأسماء ولولا تقدم لغة لم يفهم عنه عز أسمه وقد ظن قوم أن المواضعة بيننا تحتاج إلى إذن سمعي ولا وجه لهذا القول إذ الدواعي إلى التخاطب وتعريف بعضنا مراد بعض قوية والإنتفاع بذلك ظاهر‏.‏

ولا وجه فيه من وجوه القبح قبحت حسنه كالتنفس في الهواء‏.‏

وكما تحسن من أحدنا الإشارة في بعض الأوقات إلى ما يريده من غير إذن سمعي فكذلك المواضعة على كلام يدل عليه‏.‏

ومن فرق بينهما فمقترح‏.‏

وإنما فزع العقلاء إلى الحروف في المواضعة لأنها أسهل وأوسع ومع التأمل لا يوجد ما يقوم مقامها‏.‏

فأما ما نحن بصدده من ذكر اللغة العربية فلا خفاء بميزاتها على سائر اللغات وفضلها‏.‏

أما السعة فالأمر فيها واضح‏.‏

ومن‏.‏

تتبع جميع اللغات لم يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية في كثرة الأسماء للمسمى الواحد‏.‏

على أن اللغة الرومية بالضد فإن الإسم الواحد يوجد فيها للمسميات المختلفة كثيراً‏.‏

وقد كان بعض اللغويين حصر أسماء السيف والأسد في لغة العرب فكانت أورقاً عدة‏.‏

وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني وفي النقل إليها يبين ذلك‏.‏

فليس كلام ينقل إلى لغة العرب إلا ويجىء الثاني أخصر من الأول مع سلامة المعاني وبقائها على حالها‏.‏

وهذه بلا شك فضيلة مشهورة وميزة كبيرة‏.‏

لأن الغرض في الكلام ووضع اللغات بيان المعاني وكشفها‏.‏

فإذا كانت لغة تفصح عن المقصود وتظهره مع الإختصار والإقتصار فهي أولى بالإستعمال وأفضل مما يحتاج فيه إلى الإسهاب والإطالة‏.‏

وقد خبرني أبو داود المطران - وهو عارف باللغتين العربية والسريانية - أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبحت وخست‏.‏

وإذا نقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي إزداد طلاوة وحسناً‏.‏

وهذا الذي ذكره صحيح يخبر به أهل كل لغة عن لغتهم مع العربية‏.‏

وقد حكى أن بعض ملوك الروم وأظنه نقفور سأل عن شعر المتنبي فأنشد له‏:‏ كأن العيس كانت فوق جفني مناخات فلما ثرن سالا وفسر له معناه بالرومية فلم يعجبه‏.‏

وقال كلاما معناه‏:‏ ما أكذب هذا الرجل كيف يمكن أن يناخ جمل على عين إنسان وما أحسب أن العلة فيما ذكرته عن النقل إلى اللغة العربية منها وتباين ذلك إلا أن لغتنا فيها من الإستعارات والألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات‏.‏

فإذا نقلت لم يجد الناقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها وعلى هيئتها لتعذر مثلها في اللغة التي تنقل إليها‏.‏

والمعاني لا تتغير فنقلها ممكن من غير تبديل فكأن ما ينقل من اللغة العربية يتغير حسنه لهذه العلة وما ينقل إليها يمكن الزيادة على طلاوته لأن ناقله يجد ما يعبر به في العربية أفضل مما يريد وأبلغ مما يحاول‏.‏

وهذا وجه يمكن ذكر مثله ويجب أن يتأمل وينظر فيه لأني لا أعرف لغة سوى العربية‏.‏

وإنما ذهبت إليه ظناً وحدسا‏.‏

وقد تصرف في هذه اللغة بما لم أظنه تصرف في غيرها من اللغات فلم توجد إلا طيعة عذبة في كل ما استعمل فيه نظماً ونثراً وهي إلى الآن لا تقف على غاية في ذلك ولا تصل إلى نهاية كما قال أبو تمام في هذا المعنى‏:‏ ولكنه صوب العقول إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب وقد بينت فضلها بسعتها وما فيها من الإختصار في العبارة عن المعاني وذكرت وجه التفضيل بالإختصار مما لا شبهة فيه فأما السعة فالأمر فيها أيضا واضح لأن الناظم أو الناثر إذا حظر عليه موضع إيراد لفظة وكانت اللغة التي ينسج منها ذات ألفاظ كثيرة تقع موقع تلك اللفظة في المعنى أخذ ما يليق بالموضع من غير عنت ولا مشقة وهذا غير ممكن لولا السعة في كثرة الأسماء للمسمى الواحد وتلك فائدة حاصلة بلا خلاف‏.‏

على أنه ربما عرض في وضع الأسماء المشتركة فائدة في بعض المواضع مثل أن يحتاج الناطق إلى كلام يؤثر أن يكنى فيه ولا يصرح فيقول لفظة ويوهم بها معنى قد قصد غيره‏.‏

وهذا وإن قل الداعي إليه إلا في اليسير من المواضع فلم تجعل اللغة العربية خالية منها بل فيها أسماء مشتركة‏.‏

كقولهم عين وما أشبهها وههنا لها فضيلة أخرى وهي أن الواضع لها أن كانت مواضعة تجنب في الأكثر كلما يثقل على الناطق تكلفه والتلفظ به كالجمع بين الحروف المتقاربة في المخارج وما أشبه ذلك‏.‏

وإعتمد مثل هذا في الحركات أيضاً فلم يأت إلا بالسهل الممكن دون الوعر المتعب ومتى تأملت الألفاظ المهملة لم تجد العلة في اهمالها إلا هذا المعنى وليس غيرها من اللغات كذلك كلغة الأرمن والزنج وغيرهم ومما يدل على فضل هذه اللغة العربية أيضاً وتقدمها على جميع اللغات أن أربابها وأصحابها هم العرب الذين لا أمة من الأمم تنازعهم فضائلهم ولا تباريهم في مناقبهم ومحاسنهم وإن كانوا تواضعوا على هذه اللغة فلم يكن تنتج أذهانهم الصقيلة وخواطرهم العجيبة إلا شيأ خليقاً بالشرف وأمراً جديرا بالتقدم‏.‏

وأن كانت توفيقاً من الله تعال لهم ومنة من بها عليهم فلم يكن بد لهم من العناية بشأنهم والتشييد من ذكرهم حتى ركبهم على حميد الخلال وطبعهم على جميل الأخلاق إلا على غاية لا يتعلق بشأوها ورتبة يقصر الطالبون عن بلوغها‏.‏

ولست في هذه النتيجة ممن يدعى مقدمتها عصبية ولا يذهب إليها حمية بل سأبين في هذا الفصل صحة ما أقوله من تفضيل العرب بحسب ما يليق به ولا يفضل عن قدر الحاجة فيه فإني لو رمت إيضاح ذلك بجملته وإيراده بجميع أدلته خرجت عن المقصود في هذا الكتاب وأخذت في تفضيل العرب على الأمم وهو يحتاج إلى جزء مميز وكتاب مفرد وجه تفضيل العرب على غيرهم وجه تفضيل هؤلاء القوم على غيرهم إن الخصال المحمودة توجد فيهم أكثر وفي غيرهم أقل وعلى هذا الحد يقع التمييز بين القبيلتين وأهل البلدين ومتى تأمل المنصف حال العرب علم ما ذكرته حقيقة‏.‏

أما الكرم فالأمر فيه واضح لأننا لم نجد أمة من الأمم ولا شعباً من الشعوب رأى قرى الضيف واجباً ومساواة الجار فريضة إلا هذه الأمة من العرب حتى صرحوا بذلك في أشعارهم ودونوه في المأثور عنهم وتساوى فيه موسرهم ومعسرهم وغنيهم وفقيرهم‏.‏

هذا وهم في الأكثر أهل جدب وفاقة وضيق وعسر ونصب في انتجاع الرزق وكد التعرض للكسب ثم بلغ من حبهم الجود وصبابتهم إلى جميل الذكر أن سمحوا بنفوسهم ورأوا البخل بها مذموماً كالبخل بأموالهم وكان من كعب بن مامة الأيادي في ذلك ما هو مشهور معروف لا تزيد الأيام ذكره إلا بقاء ولا يؤثر فيه بعد العهد الأجدة ووضوحاً‏.‏

ولم نر في الهند والزنج والحبش والترك من إدعى مثل هذه السجية ولا إنتسب إلى هذه الخلة‏.‏

فأما الفرس والروم فالبخل عليهم غالب وحب الغنى مركوز في طباعهم ليس عندهم في ذلك كبير عار ولا وأما الوفاء فمن دينهم الذي كانوا يرونه لازما ومذهبهم الذي كانوا يعتقدونه حتما حتى صار من تمسك بجوارهم أو تعلق ببعض أطنابهم تبذل النفوس دونه وتراق الدماء في المنع منه فكم قتل الرجل منهم في ذلك أقرب الناس إليه نسباً وأمسهم به رحماً وكم من وقعة عظيمة وحرب جليلة طويلة جرها ضيم نزيل أو التعرض لسب جار كالحال في حرب البسوس التي ساقها ما علم من قتل كليب لناقة جارة جساس وإستفحال ذلك وتماديه حتى شهدته الأجنة شيباً‏.‏

فأما السموءل ورضاه بقتل ابنه دون الدروع التي كانت وديعة عنده وأبو دؤاد الأيادي في قود ولده بجاره فمما هو متداول لأخفاء بتقصير جميع الأمم عنه‏.‏

وأما الباس والنجدة وطاعة الغضب والحمية وأدراك الثأر وطلب الأوتار فأخبارهم بذلك معروفة وسيرهم فيه بذلك متداولة لا يخص به الرجل دون المرأة ولا الغلام دون الهم المسن بل يوجد عند نسائهم من الصبر والشجاعة والتحريض على الحرب والقساوة مالا يساويه المذكورون بالنجدة في غيرهم والمنسوبون إلى البأس من سواهم كأسماء ومن يجري مجراها ممن خبره مشهور معروف‏.‏

هذا وفي طباع النساء اللين وشيمتهن الضعف واليهن تنسب رقة القلوب وعنهن يؤخذ انتكاس العزائم ثم هم أصحاب السرى والتأويب وإليهم يعزى جوب القفار وقطع المهامه والحروب عادتهم والغارة صناعتهم وبصيرتهم بها وآراؤهم فيها تدلك على اهتمامهم بهذا الشأن وإرهاف أفكارهم فيه وشحذ خواطرهم لتدبيره‏.‏

ولا حجة فيما ذكرناه أبين ولا دليل عليه أوضح من اجتزائهم عن جميع المعايش غيره وإقتصارهم من سائر المكاسب عليه‏.‏

إذ لم يروضوا شماسهم بذلة المهن ولا مرنوا نخواتهم على معاناة الحرف لا يسأل أحدهم الرزق الأغرار سيفه ولا يستنجد على نفي الضيم إلا بسنان رمحه‏.‏

وأما العقول الصحيحة والأذهان الصافية فالأمر في تفضيلهم بها واضح وذلك أنهم لم يكونوا أهل تعليم ودرس ولا أصحاب كتب وصحف ولا يعرفون كيف التأديب والرياضة ولا يعلمون وجه اقتباس العلم والرواية‏.‏

وفي كلامهم من الحكم العجيبة والأمثال الغريبة والحث على محاسن الأخلاق والأمر بجميل الأفعال ما إذا تأملته غض عندك ما يروى عن حكماء اليونانيين وسهل الأمر عليك فيما حكاه الناس عنهم‏.‏

ووجدت تلك الفصول اليسيرة والفقر القليلة تسند إلى جليل من الحكماء وتضاف إلى رئيس من العلماء وأمثالها وأضعافها في شعر راع جلف ومن كلام عبد غمر ينشئها طبعه بلا تثقيف ويسمح بها خاطره عن غير صقال‏.‏

ثم لما صار هؤلاء القوم إلى الدين وتمسكوا بالشريعة وعادوا أصحاب كتاب يدرس ومذهب يروى ظهر لعمري من دقيق أفهامهم وعجيب كلامهم ما هو موجود لا يخفى على أحد جالس العلماء وخالط الكتب سبقهم إليه ومعجزهم فيه وأنهم فرعوا من المذاهب وولدوا من العلوم ما كان من قبلهم كان ممنوعاً منه ومصروفاً عنه‏.‏

وأما حب الذكر وجميل الثناء والفرق من الذم وسوء القول فمما هو معلوم من عادتهم معروف من شيمتهم‏.‏

حتى كانوا إذا أسروا شاعراً شدوا لسانه بن سعة خوفاً من أن يسبقهم ببيت يشرد أو يعجلهم بقول يؤثر‏.‏

وقد قال أبو عثمان الجاحظ‏:‏ لأمر ما قال حذيفة بن بدر لأخيه والرماح شوارع في صدره إياك والكلام المأثور‏.‏

وقال هذا مذهب فرعت فيه العرب جميع الأمم وهو مذهب جامع لأصناف الخير‏.‏

وأما الغيرة والأنفة والصبر والجلد فمعلوم منهم حتى نسبوا إلى الفظاظة وذكروا بالقساوة وعلل ذلك بأكثارهم أكل لحوم الأبل وإدمانهم التقوت بها وزعموا أن في طباعها قسوة القلوب ومن عادتها غلظ الأكباد‏.‏

هذا وهم متى هب في أحدهم نسيم الصبابة ودبت في مفاصله نشوة الهوى لانت تلك المعاطف ورقت تلك الشمائل وعاد ذلك العز ذلاً وفرقاً وصارت تلك النحوة توسلا وخضوعاً لكنه مع العفاف من الريب والبعد من التهم والمساواة بين الباطن والظاهر والاتفاق بين الغائب والبادي‏.‏

وأشعارهم وأخبارهم بهذا كله مملوءة حتى كان هذا الحي من عذرة قوماً إذا نظروا عشقوا وإذا عشقوا ماتوا‏.‏

وأما مراعاة الأنساب وحفظها وذكر الأصول والبحث عنها فباب تفردت به العرب فلم يشاركها فيه مشارك ولا ماثلها فيه مماثل وفوائده في الانتصار للعشيرة والحمية للأهل وغير ذلك معروفة ليس هذا موضع ذكرها وتقصى الكلام عليها هذه شيمهم وأخلاقهم وفيهم من بعد كتاب الله خير الكتب ورسوله سيد الرسل ودينه ناسخ الأديان‏.‏

وفي جميع ما ذكرناه من أشعارهم ما يدل على صحته لكن المختار منه يأتي في الكلام على الفصاحة من هذا الكتاب بمشيئة الله تعالى فلذلك لم نورده هنا خوفاً من الإعادة وفراراً من التكرار‏.‏

ونعود إلى الكلام في اللغة قالوا مما إختصت به لغة العرب من الحروف وليس هو في غيرها حرف الظاء وقال آخرون حرف الظاء والضاد‏.‏

ولذلك قال أبو الطيب المتنبي‏:‏ وبهم فخر كل من نطق الضاد يريد وبهم فخر جميع العرب‏.‏

وقد ذهب قوم إلى أن الحاء من جملة ما تفردت به لغة العرب وليس الأمر كذلك لأني وجدتها في اللغة السريانية كثيراً‏.‏

وحكى أنها في الحبشية والعبرانية‏.‏

وأما العين والصاد والطاء والتاء والقاف فقد تكلم بها غير العرب إلا أنها قليل‏.‏

وقد خلت اللغة العربية من حروف توجد في غيرها من اللغات لا سيما لغة الأرمن فإنها على ما قيل ستة وثلاثون حرفاً إلا أنك إذا تأملتها وجدت بعض الحروف التي فيها يتشابه ببعض كثيراً على حد تشابه الظاء والضاد في لغة العرب‏.‏

فإن هذين الحرفين متقاربان لأجل ذلك احتاج الناس إلى تصنيف الكتب في الفرق بينهما ولم يتكلفوا ذلك في غيرهما من الحروف‏.‏

فأما الأعراب فقل من رأيت من فضحائهم اليوم من يفرق بينهما في كلامه وهذا يدلك على شدة التشابه وقوة التماثل ولست أقول هذا على وجه الأحتجاج بكلامهم فإنهم الآن محتاجون إلى أقتباس اللغة من الحضر وإصلاح المنطق بأهل المدر‏.‏

إلا أنهم قل ما يتفق منهم العدول عن النطق بحرف من الكلام إلى حرف آخر إلا والشبه فيهما قوى على ما قدمت ذكره‏.‏

ووقوع المهمل من هذه اللغة على ما قدمته لك في الأكثر من اطراح الأبنية التي يصعب النطق بها لضرب من التقارب في الحروف فلا يكاد يجىء في كلام العرب ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة لحزونة ذلك على ألسنتهم وثقله‏.‏

وقد روى أن الخليل ابن أحمد قال‏:‏ سمعنا كلمة شنعاء وهي الهغجع وأنكرنا تأليفها‏.‏

وقيل إن إعرابياً سئل عن ناقته فقال‏:‏ تركتها ترعى الهغجع فلما كشف عن ذلك وسئل الثقات من العلماء عنه أنكروه ودفعوه وقالوا‏:‏ نعرف الخعخع وهذا أقرب إلى تأليفهم لأن الذي فيه حرفان حسب‏.‏

وحروف الحلق خاصة مما قل تأليفهم لها من غير فصل يقع بينهما كل ذلك أعتماداً للخفة وتجنباً للثقل في النطق‏.‏

فأما القاف والكاف والجيم فلم تتجاوز في كلامهم البتة لم يأت عنهم قج ولا جق ولا كج ولا جك ولا قك ولا كق وكل ذلك فراراً مما ذكرناه إلا أن هذه الحروف قد تكررت في بعض الكلام قال رؤبة بن العجاج‏:‏ لواحق الأقراب فيها كالمقق ونحو ذلك‏.‏

والعلة فيه على ما ذكر أصحاب هذه الصناعة أن المكرر معرض في أكثر أحواله للإدغام لأنك تقول فرس أمق والحرفان المتجاوران لا يمكن إدغام أحدهما في الآخر حتى يتكلف قبله إلى لفظه ثم يدغم فكانت المشقة فيه أغلظ فرفض لذلك‏.‏

وهذا وجه صالح‏.‏

وقد قسم تأليف الحروف ثلاثة أقسام فالأول تأليف الحروف المتباعدة وهو الأحسن المختار والثاني تضعيف هذا الحرف نفسه وهو يلي هذا القسم في الحسن والثالث تأليف الحروف المتجاورة وهو إما قليل في كلامهم أو منبوذ رأساً لما قدمناه والشاهد على ما ذكرناه الحس فإن الكلفة في تأليف المتجاور ظاهرة يجدها الإنسان من نفسه حال التلفظ ومن الحروف التي لم يتركب في كلامهم بعضها مع بعض الصاد والسين والزاي ليس في كلام العرب مثل سص ولا صس ولا سز ولا زس ولا زص ولا صز والعلة في هذا كله واحدة وهذه جملة مقنعة في هذا الفصل لمن وقف عليها بعون الله تعالى‏.‏

الكلام في الفصاحة الفصاحة الظهور والبيان ومنها أفصح اللبن إذا انجلت رغوته وفصح فهو فصيح قال الشاعر‏:‏ وتحت الرغوة اللبن الفصيح ويقال أفصح الصبح إذا بدا ضوءه وأفصح كل شيء إذا وضح وفي الكتاب العزيز وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي وفصح النصارى عيدهم وقد تكلمت به العرب‏.‏

قال حسان بن ثابت‏:‏ - ودنا الفصح فالولائد ينظمن سراعا أكلة المرجان ويجوز أن يكون ذلك لأعتقادهم أن عيسى عليه السلام ظهر فيه وسمى الكلام الفصيح فصيحاً - كما أنهم سموه بياناً - لأعرابه عما عبر به عنه وإظهاره له إظهاراً‏.‏

جلياً‏.‏

روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ أنا أفصح العرب بيد أني من قريش والفرق بين الفصاحة والبلاغة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني‏.‏

لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها إنها فصيحة‏.‏

وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغاً كالذي يقع فيه الإسهاب في غير وقد حد الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست بالحدود الصحيحة فمن ذلك قول بعضهم لمحة دالة وهذا وصف من صفاتها فأما أن يكون حاصرا لها وحداً يحيط بها فليس ذلك بممكن لدخول الإشارة من غير كلام يتلفظ به تحت هذا الحد‏.‏

وكذا قال آخر والبلاغة معرفة الفصل من الوصل لأن الإنسان قد يكون عارفاً بالفصل والوصل عالما بتمييز مختار الكلام من مطرحه وليس بينه وبين البلاغة سبب ولا نسب ولا يمكنه أن يؤلف ما يختاره من تأليف غيره والحدود لا يحسن فيها التأول وإقامه المعاذير وغرابة ألفاظ تدل على المقصود لأنها مبنية على الكشف الواضح موضوعة للبيان الظاهر والغرض بها السلامة من الغامض فكيف يوقع في غامض بمثله‏.‏

وكذلك قول الآخر‏:‏ البلاغة أن تصيب فلا تخطىء وتسرع فلا تبطىء لأن هذا يصلح لكل الصنائع وليس بمقصور على صناعة البلاغة وحدها ثم إنما سئل عن بيان الصواب في هذه الصناعة من الخطأ فجعل جواب السائل نفس سؤاله‏.‏

وبهذا أيضاً يفسد قول من دعي أن حدها الإيجاز من غير عجز والاطناب من غير خطل‏.‏

وقول من قال‏:‏ البلاغة اختيار الكلام وتصحيح الأقسام‏.‏

لأن هذين إنما سئلا عن حد يبين الكلام المرفوض من المختار والخطأ من الصواب ويوضح كيف يكون الايجاز مختاراً ومتى يقع الإطناب مرضيا محموداً فأحالا على ما السؤال فيه باق وعدم العلم معه موجود حاصل وفي البلاغة أقوال كثيرة غير خارجة عن هذا النحو وإذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزءيها فكلامي على المقصود وهو الفصاحة غير متميز إلا في الموضع الذي يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص وخليط لا ينقسم‏.‏

وسأذكر بمشيئة الله ما يخطر لي ويسنح بفكري في موضعه‏.‏

وأقول قبل ذلك إن الناس قد أكثروا من الدلالة على شرف الفصاحة وعظم قدر البيان والبلاغة ونبهوا بطرق كثيرة وألفاظ مختلفة‏.‏

وقد قال عز اسمه ‏"‏ الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ‏"‏ ولم يكن تعالى يذكر البيان ها هنا إلا وهو من عظيم النعم على عبيده وجميل البلاء عندهم لا جرم وقد قرن ذلك بذكر خلقهم فجعله مضافا إلى المنة بخروجهم من العدم إلى الوجود من جانب النفي إلى الاثبات وأنا أقول قولا مختصرا كافيا‏:‏ قد ثبت أن الفرق الواضح بين الحيوان الناطق والصامت هو النطق وبه وقع التمييز في الحد المنسوب إلى الحكيم وأن كان يفسره أصحابه بغير هذا الظاهر فالشرف منه يؤخذ والفضل به يقع‏.‏

ولا خلاف في أن الصمت أفضل من مطرح الكلام ومنبوذه وأوفق للسامع من كلف ذلك‏.‏

فقد صار مع هذا التخريج الفصل المميز والفضل اللائح إنما هو للإفصاح والبيان والبلاغة وحسن النطق دون ما يسمى كلاماً فقط‏.‏

ووجب على من أراد أن يخرج من حيز ذلك الصامت الناطق سلوك الطريق الذي به توجد الفضيلة وعنه تدرك الميزة بإجتهاده إن كان لا دربة له وتكلفه أن كان لا طبع عنده‏.‏

وليعلم أن من شارك الناطق بالصورة وخالفه بالمعنى الموجب للشرف أسوأ حالاً وأقبح صفة من الصامت المخالف في الأمرين معا‏.‏

لأن هذا غريب في الموضع الذي وجد فيه آهلا ووحيد في المكان الذي خلق به آنساً وما أحسن ما قال إبراهيم بن محمد المعروف بالإمام يكفى من من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء افهام الناطق ولا الناطق من سوء فهم السامع‏.‏

وهذا كلام مختار في تفضيل البلاغة‏.‏

وقال سهل بن هرون الكاتب‏:‏ العقل رائد الروح والعلم رائد العقل والبيان ترجمان العلم‏.‏

وأولى من هذا بالحجة قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس وقد سأله فيم الجمال - فقال‏:‏ في اللسان وقالوا لما دخل ضمرة بن ضمرة على النعمان بن المنذر احتقره لما رأى من دمامته وقال‏:‏ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه‏.‏

فقال‏:‏ أبيت اللعن أن الرجال لا تكال بالقفزان وليست تستقي فيها وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه إن صال صال بحنان وأن نطق نطق بلسان وأنشدوا لأبي الأعور السلمى‏:‏ لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وهذان البيتان قد ذكرتهما فيما تقدم حكاية عن أبي طالب العبدي لكن هذا موضعهما‏.‏

وقيل لزيد بن علي عليهما السلام‏:‏ الصمت أفضل أم الكلام فقال أخزى الله المساكتة فما أفسدها للسان وأجلبها للحصر والله إن المماراة على ما فيها لأقل ضرراً من السكتة التي تورث أدواء أيسرها العي‏.‏

وأنت إذا سمعتهم يمدحون الصمت وينظمون القريض في مدحه ويذكرون جنايات اللسان وكلومه ويروون عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ويقولون لو كان الكلام من فضة كان الصمت من ذهب‏.‏

وأشباه هذا ونظايره فإنما يريدون الكلام الذي ليس بجميل واللفظ الذي لا يستحسن‏.‏

فأما أن يكون الحسن يتواتر حتى يصير قبيحاً والقبيح يتضاعف حتى يكون حسناً فهذا شيء خارج عن حد العقل ونظامه وليس هذا المذهب مما يمكن وقوع الخلاف فيه فيحتاج إلى إطالة في بيانه وقد أوردنا لمحة يستدل بها على غيرها وأن المذكور في هذا النحو لا ينحصر ولا تستوفي غايته‏.‏

وأقول قبل كلامي في الفصاحة وبيانها إنني لم أر أقل من العارفين بهذه الصناعة والمطبوعين على فهمها ونقدها مع كثرة من يدعي ذلك ويتحلى به وينتسب إلى أهله ويماري أصحابه في المجالس ويجاري أربابه في المحافل وقد كنت أظن أن هذا شيء مقصور على زماننا اليوم ومعروف في بلادنا هذه حتى وجدت هذا الداء قد أعيا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي وأبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبله وأشكاهما حتى ذكراه في كتبهما‏.‏

فعلمت أن العادة به جارية والرزية فيه قديمة‏.‏

ولما ذكرته رجوت الانتفاع به من هذا الكتاب وأملت وقوع الفائدة به إذ كان النقص فيما أبنته شاملا والجهل به عاما والعارفون حقيقته قرحة الأدهم بالإضافة إلى غيرهم والنسبة إلى سواهم‏.‏

ونبتدىء الآن بالكلام فيما أجرينا القول إليه ونقول إن الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ‏.‏

وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف وبوجود أضدادها تستحق الأطراح والذم‏.‏

وتلك الشروط تنقسم قسمين فالأول منها يوجد في اللفظة الواحدة على انفرادها من غير أن ينضم إليها شيء من الألفاظ وتؤلف معه والقسم الثاني يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض فأما الذي يوجد في اللفظة الواحدة فثمانية أشياء الأول أن يكون تأليف تلك الفظة من حروف متباعدة المخارج على ما ذكرناه في الفصل الرابع وعلة هذا واضحة وهي أن الحروف التي هي أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر ولا شك في أن الألوان المتباينة إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة ولقرب ما بينه وبين الأصفر وبعد ما بينه وبين الأسود وإذا كان هذا موجودا على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه كانت العلة في حسن اللفظة المؤلفة من الحروف المتباعدة هي العلة في حسن النقوش إذا مزجت من الألوان المتباعدة وقد قال الشاعر في هذا المعنى‏:‏ فالوجه مثل الصبح مبيض والفرع مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد وهذه العلة يقع للمتأمل وغير المتأمل فهمها ولا يمكن منازع يجحدها ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير جل كلام العرب عليه فلا يحتاج إلى ذكره‏.‏

فأما تأليف الحروف المتقاربة فقد قدمنا في الفصل الرابع مثالا حكى منه وهو الهفخع ولحروف الحلق مزية في القبح إذا كان التأليف منها فقط وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان وبعض النغم من الأصوات‏.‏

والثاني أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسناً ومزية عل غيرها وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة كما أنك تجد لبعض النغم والألوان حسناً يتصور في النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه كل ذلك لوجه يقع التأليف عليه ومثاله في الحروف - ع ذ ب - فإن السامع يجد لقولهم العذيب اسم موضع وعذيبة اسم امرأة وعذب وعذاب وعذب وعذبات مالا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط ولكنه تأليف مخصوص مع البعد ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة الأولى في تقديم العين على الذال لضرب من التأليف في النغم يفسده التقديم والتأخير وليس يخفى على أحد من السامعين أن تسمية الغصن غصناً أوفنناً أحسن أحسن من تسميته عسلوجاً‏.‏

وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشوحط في السمع ويقال لمن عساه ينازعنا في ذلك لو حضرك مغنيان وثوبان منقوشان مختلفان في المزاج هل كان يجوز عليك الطرب على صوت أحد المغنيين دون صاحبه وتفضيل أحد الثوبين في حسن المزاج على الآخر‏!‏ فإن قال لا يصح أن يقع لي ذلك خرج عن جملة العقلاء وأخبر عن نفسه بخلاف ما يجد وأن اعترف بما ذكرناه قيل له فخبرنا ما السبب الذي أوجب عليه ذلك فإنه لا يجد أمراً يشير إليه إلا ما قلناه في تفضيل إحدى اللفظتين على الأخرى وقد يكون هذا التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق فيحسن أيضاً كل ذلك لما قدمته من وقوعه على صفة يسبق العلم بقبحها أو حسنها من غير المعرفة بعلتها أو بسببها ومثال ذلك مما يختار‏:‏ قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في بعض رسائله ورعوا هشيما تأنفت روضه فإن تأنفت كلمة لاخفاء بحسنها لوقوعها الموقع الذي ذكرته وكذلك قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ إذا سارت الأحداج فوق نباته تفاوح مسك الغانيات ورنده فإن تفاوح كلمة في غاية من الحسن‏.‏

وقد قيل إن أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال وإن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعرا نظمها بعد أبي الطيب‏:‏ فقال أخذتموها‏!‏ ومثال ما يكره قول أبي الطيب أيضا‏:‏ مبارك الاسم أغر اللقب كريم الجر شي شريف النسب فإنك تجد في الجرشي تأليفاً يكرهه السمع وينبو عنه ومثل ذلك قول زهير بن أبي سلمى‏:‏ تقي نقي لم يكثر غنيمةً بنهكة ذي قربى ولا بحقلد والحقلد - كلمة توفي على قبح الجرشي وتزيد عليها‏.‏

والثالث أن تكون الكلمة كما قال أبو عثمان الجاحظ غير متوعرة وحشية كقول أبي تمام‏:‏ لقد طلعت في وجه مصر بوجهه بلا طائر سعد ولا طائر كهل فإن كهلاها هنا من غريب اللغة وقد روى أن الأصمعي لم يعرف هذه الكلمة وليست موجودة إلا في شعر بعض الهذليين وهو قوله‏:‏ فلو كان سلمى جاره أو أجاره رياح بن سعد رده طائر كهل وقد قيل‏:‏ إن الكهل الضخم وكهل لفظة ليست بقبيحة التأليف لكنها وحشية غريبة لا يعرفها مثل الأصمعي ومن ذلك أيضاً ما يروى عن أبي علقمة النحوي من قوله‏:‏ ما لكم تتكأكؤون على تكأكؤكم على ذي جنة أفرنقعوا عني‏.‏

فإن تتكأكؤون وافرنقعوا - وحشي وقد جمع لعمري العلتين مع قبح التأليف الذي يمجه السمع والتوعر وما أكثر ما تجتمع العلتان في هذا الجنس ومن الأمثلة قول أبي تمام‏:‏ بنداك يوسى كل جرح يعتلى رأب الأساء بدردبيس قنطر وكذلك قوله‏:‏ قدك اتئد أربيت في الغلواء فإن هذه الألفاظ كما ترى وحشية‏.‏

ويوجد هذا الجنس في شعر العجاج وابنه رؤبة كثيراً ومنه قول بعضهم‏:‏ فشحا جحافلة جراف هبلع وقال الآخر‏:‏ غرباً جروراً وجلالا خزخز وقال غيره في صفة اللبن‏:‏ وآخذ طعم السقاء سامط وخاثر عجلط عكالط وقول الآخر‏:‏ يأكلن من قراص وحمصيص واص وفي هذه الألفاظ ما جمع الصفتين معاً على ما ذكرناه‏.‏

وقد روى أن أبا العتاهية قال لمحمد بن مناذر‏:‏ إن كنت أردت بشعرك شعر العجاج ورؤبة فما صنعت شيئاً وإن كنت أردت أهل زمانك فما أخذت مأخذنا‏.‏

أرأيت قولك‏:‏ - ومن عاداك لاقي المرمريسا - أي شيء المرمريس ولهذا كله أعتمد الحذاق من الشعراء على اختيار أسماء المنازل والنساء في الغزل وتجنبوا ما لا يحسن لفظه للشروط التي ذكرناها وعابوا قول جرير بن عطية‏:‏ وتقول بوزع قد دببت على العصا هلا هزئت بغيرنا يا بوزع وذكروا أن الوليد بن عبد الملك‏.‏

قال‏:‏ له أفسدت شعرك ببوزع وهجنوا اتباع الخليل بن أحمد له في هذا الاسم حين قال‏:‏ أم البنين وأسماء والرباب وبوزع واستقبحوا قول أبي تمام‏:‏ يقول أناس في حبينآء عاينوا عمارة رحلى من طريف وتالد وقالوا‏:‏ ما الفائدة في ذكر حبينآء وليس أبو تمام مضطراً إلى ذكر الموضع الذي قيل له فيه هذا‏.‏

وقد ذكروا أن الفرزدق أنكر على مالك بن أسماء بن خارجة وقد أنشده‏:‏ حبذا ليلتي بتل بوني وقال أفسدت شعرك بذكر بوني قال له ففي بوني كان ذلك قال‏:‏ وإن كان‏.‏

وأما قول أبي عبادة وأنا الشجاع وقد رأيت مواقفي بعقرقس والمشرفية شهدي فله في ذكر عقرقس عذر واضح لأنه الموضع الذي شاهد الممدوح به قتاله‏.‏

وليس يحسن أن يذكر موضعاً غيره ولم يحمد فيه‏.‏

وهذا ليس بموجب حسن اللفظة‏.‏

ولكنه يبسط عذر ناظمها حسب‏.‏

ومن هذه الألفاظ المذكورة قول عنترة‏:‏ شربت بماء الدحرصين فأصبحت زوراء تنفر عن حياض الديلم ولعل عنترة أراد ذكر الماء المشروب على الحقيقة وإلا لو أمكنه أن يذكر اسم مورد من الموارد الذي يجري هذا المجرى كان أحسن وأليق‏.‏

وأما قول الكميت‏:‏ وأدنين البرود على خدود يزين الفداغم بالأسيل فإن الفداغم كلمة رديئة كما ترى‏.‏

ومن الوحشي قول امرىء القيس بن حجر‏:‏ وسن كسنيق سنآء وسنما فإن هذا على ما ذكر لم يعرفه الأصمعي ولا أبو عمرو وقال‏:‏ هو بيت مسجدي يريد من عمل أهل المسجد‏.‏

وقال غيرهما شنيق جبل وسنم هي البقرة فأما السن فالثور‏.‏

ومن هذا أيضاً قول العجاج‏:‏ فإن المرسن الأنف والمسرج لا يعرف حتى خرج له أنه أراد بالمسرج المحدد من قولهم للسيوف السريجيات منسوبة إلى قين يعرف بسريج‏.‏

وهذا القصد على ما تراه وحشى غريب‏.‏

وما زال أهل العلم بالشعر يكرهون قول ذي الرمة‏:‏ عصا عسطوس لينها وإعتدالها وفي عسطوس ضروب من العيوب المذكورة وقيل إنه الخيزران‏.‏

وقد كان يمكن ذا الرمة أن يقول‏:‏ عصا خيزران وإن كان هؤلاء الشعراء أرادوا الاغراب حتى يتساوى في الجهل بكلامهم العامة وأكثر الخاصة فما أقبح ما وقع لهم‏.‏

وقد رأيت أنا جماعة يتعمدون هذا فقلت لهم‏:‏ إن سررتم بمعرفتكم وحشى اللغة فيجب أن تغتموا بسوء حظكم من البلاغة‏.‏

وجرى بين أصحابنا في بعض الأيام ذكر شيخنا أبي العلاء بن سليمان فوصفه واصف من الجماعة بالفصاحة واستدل على ذلك بأن كلامه غير مفهوم لكثير من الأدباء فعجبنا من دليله وان كنا لم نخالفه في المذهب‏.‏

وقلت له‏:‏ إن كانت الفصاحة عندك بالألفاظ التي يتعذر فهمها فقد عدلت عن الأصل أولا في المقصود بالفصاحة التي هي البيان والظهور ووجب عندك أن يكون الأخرس أفصح من المتكلم لأن الفهم من إشاراته بعيد عسير‏.‏ وأنت تقول كلما كان أغمض وأخفى كان أبلغ وأفصح‏.‏

وعارضه أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب وقال‏:‏ صدقت إننا لا نفهم عنه كثيراً مما يقول إلا أن على قياس قولك يجب أن يكون ميمون الزنجي الذي نعرفه أفصح من أبي العلاء لأنه يقول ما لا نفهمه نحن ولا أبو العلاء أيضاً‏!‏ فأمسك‏.‏

وأنا أكره من قول كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة‏:‏ وما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها وعرارها ذكر الجثجاث لأنه اسم غير مختار‏.‏

ولو أمكنه ذكر غيره كان عندي أليق وأوفق‏.‏

ولا أحب أيضاً تسمية أبي تمام صاحبه علاثة ونداءه بالترخيم في قوله‏:‏ قف بالطلول الدارسات علاثاً أضحت حبال قطينهن رثاثا وإن كان الروى قاده إلى ذلك فليت شعري من حظر عليه القوافي واقتصر به على الثآر دون غيرها من الحروف‏!‏ وليس يؤثر منه إلا الشعر الحسن على أقرب الوجوه وأسهل السبل دون ما يتكلف المشقة في نظمه والعنآء في تأليفه وليس يغفر للشاعر لاجل ما يلزم به نفسه ذنب ولا يغفل له عن خطإ إذ كان حظر المباح وحرم الحلال وأعتمد تكلف النصب طوعاً واختياراً وهوى وقصداً‏.‏

لكنه لعمري إذا أتانا بالسليم من الزلل البعيد من التكلف والخطل‏.‏

وكان كذلك في مأخذ صعب ومسلك وعر حمدناه الحمد الكامل ووصفناه الوصف التام‏.‏

ومن الألفاظ التي ذكرناها قول أبي عبادة البحتري‏:‏ فليس بقبح جؤشوش خفآء‏.‏

هذا على إنني لم أعرف شاعراً قديماً ولا حديثاً أحسن سبكاً من أبي عبادة ولا أحذق في أختيار الألفاظ وتهذيب المعاني‏.‏

ومن ذلك أيضاً قول أبي تمام‏:‏ صهصلق في الصهيل تحسبه اشرج حلقومه على جرس وقول القطامي‏:‏ إلى حيزبون توقد النار بعد ما تصوبت الجوزاء قصد المغارب فهل تعرف أوعر من صهصلق أو حيزبون وعلى كل حال فالبدوي صاحب الطبع في هذا الفن أعذر من القروى المتكلف‏.‏ لأن هذا لا يعرف هذه إلا بعد البحث والطلب وتجشم العناء في التصفح‏.‏ وعلى قد ذلك يجب لومه والانكار عليه‏.‏

والرابع‏:‏ أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية كما قال أبو عثمان أيضاً‏.‏

ومثال الكلمة العامية قول أبي تمام‏:‏ جليت والموت مبد حر صفحته وقد تفرعن في أفعاله الأجل فإن تفرعن مشتق من اسم فرعون‏.‏

وهو من ألفاظ العامة‏.‏

وعادتهم أن يقولوا‏:‏ تفر عن فلان إذا وصفوه بالجبرية‏.‏

ومنه قول أبي نصر عبد العزيز ابن نبانة‏:‏ أقام قوام الدين زيغ قناته وأنضج كي الجرح وهو فطير فتأمل لفظة فطير تجدها عامية مبتذلة إن كانت لعمري قد وقعت هنا موقعاً لو كانت فصيحة هجنها وأذهب طلاوتها‏.‏ كيف وهي على ما تراه‏.‏

فأما قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ إني على شغفي بما في خمرها لأعف عما في سراويلاتها فلا شيء أقبح من ذكر السراويلات وما أعرف كناية أشهد الله أن التصريح أجمل منها ووصف عفة سلوك لريب والنهم أحسن من التلفظ بها إلا كناية أبي الطيب هذه ونعته عفافه هذا النعت‏.‏

ومن الألفاظ العامية أيضاً قوله‏:‏ خلوقية في خلوقيها سويداء من عنب الثعلب فإن عنب الثعلب مما أقول إن العامة لو نظمت شعراً لترفعت عن ذكره‏.‏

وليس ايرادي هذه الأمثلة على جهة الطعن على هؤلاء الشعراء الفضلاء والغض منهم‏.‏

وكيف يكون ذلك وسأورد من غرائبهم وبدائع كلامهم ما يعلم معه أننا تحت تقصير عن شأوهم ويقع العجز عن أدراك القريب من غاياتهم‏.‏

لكني إذا أحتجت إلى آيراد الأمثلة في المختار والمنبوذ والمحود والمذموم فلا معدل لي عن أشعارهم وتصفح نظمهم وأخذ ما أريده منها وأيراده عنها في الصنفين معاً‏.‏

لو كان كلفها عبيد حاجة يوماً لزنى شدقماً وجديلا فزنى في القبح يوفي على كل قبيح فأما قول زهير بن أبي سلمى في قصيدته المختارة‏:‏ وأقسمت جهداً بالمنازل من مني وما سحقت فيه المقادم والقمل فإن القمل من الألفاظ التي تجري هذا المجرى وقول أبي تمام‏:‏ قد قلت لما لج في صده أعطف عل عبدك يا قابري غاية في السخافة‏!‏ لأن قابري من ألفاظ عوام النساء وأشباههن‏.‏

وليس لأحد أن يتخيل أن العذر في إيراد هذه الألفاظ وأمثالها تعذر ما يقع موقعها في النظم كما يظن ذلك بعض المتخلفين في هذه الصناعة‏.‏

وذلك أنه ليس يجب على الانسان أن يكون شاعراً ولا كاتباً ولا صاحب كلام يؤثر ولفظ يروى ولا يجب عليه لو وجب هذا أن ينظم تلك القصيدة التي وردت فيها هذه اللفظة ولا البيت من القصيدة‏.‏ فكيف نعذره إذا أورد لفظة قبيحة جارية مجرى ما ذكرناه وهو قادر على حذف البيت كله واطراح ذكر جميعه إن لم يكن قادراً على تبديل كلمة منه‏.‏

ونعود إلى ذكر الألفاظ العامية ونقول من الأمثلة قول أبي نصر بن نباتة‏:‏ فقد رفعت أبصارها كل بلدة من الشوق حتى أوجعتها الأخادع فإن أوجعتها من أشد ألفاظ العامة ابتذالا‏.‏

وإن كانت الأخادع قبيحة‏.‏

ومنها قول أبي تمام‏:‏ وكيمياء من ألفاظ العوام المبتذلة وليست من ألفاظ الخاصة ولا يحسن نظم مثلها‏.‏

وكذلك أيضاً قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ تستغرق الكف فوديه ومنكبه وتكتسى منه ريح الجورب الخلق والجورب مما يكره ايراد مثله لما ذكرته‏.‏

وأمثال هذا كله في الأشعار المطرحة كثير‏.‏

ولو تأملت قصيدة واحدة من شعر من يدعى القريض في هذا العصر وجدت فيها عدة أمثلة لكل ما أكرهه وأنكره إلا أني أعتمد على التمثيل بأشعار هؤلاء الفحول المتقدمين في هذه الصناعة لأمور‏:‏ أولها صيانة هذا الكتاب عن تهجينه بذكر غيرهم‏.‏

وثانيها أن اللفظة التي تكره في نظم هؤلاء الحذاق تقع فريدة وحيدة يظهر مباينتها لكلامهم فالعلم بها واضح وكشفها جلي‏.‏

وقد قال حبيب بن أوس‏:‏ وكذاك لم تفرط كآبة عاطل حتى يجاورها الزمان بحال وقال غيره قبله‏:‏ الجهل في الجاهل المغمور مغمور والعيب في الكامل المذكور مذكور كفوفة الظفر تخفي من مهانته وبعضها في سواد العين مشهور وليس مكانها في أشعار غيرهم كذلك‏.‏

بل هي منظومة مع غيرها في القبح وأشكالها‏.‏

وثالثها إيثاري أن أعلمك أن مقدمي الفصاحة سامحوا نفوسهم وأصبحوا في طاعة أهوائهم ليتحقق أن الزلل في طباع البشر موجود‏.‏

والعصمة عن أكثرهم بائنة هذا على مالي في طلب ذلك من الكلفة والنصب إذ كان قليلا في كلامهم مغموراً بمحاسنهم وكنت أفتقر إلى تأمل الديوان الكامل حتى أظفر منه بالكلمات اليسيرة فأوردها مثالا فأما اقتصاري في أكثر ما أمثل به على المنظوم دون المنثور مع أن كلامي عليهما واحد فإنما أقصد ذلك لكثرة المنظوم واشتهاره ورغبتي في أن يسهل الوزن عليك حفظ ما أذكره فإنه داع قوى وسبب وكيد‏.‏

والخامس‏:‏ أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة ويدخل في هذا القسم كل ما ينكره أهل اللغة ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة‏.‏

وقد يكون ذلك لأجل أن اللفظة بعينها غير عربية‏.‏

كما أنكروا على أبي الشيص قوله‏:‏ وجناح مقصوص تحيف ريشه ريب الزمان تحيف المقراض وقالوا ليس المقراض من كلام العرب‏.‏

وتبعه أبو عبادة فقال‏:‏ وأبت تركي الغديات والآ صال حتى خضبت بالمقراض فعابوه عليهما معاً‏.‏

وقد تكون الكلمة عربية إلا أنها قد عبر بها عن غير ما وضعت له في حلت محل البكر من معطى وقد زفت من المعطى زفاف الأيم وقال أبو عبادة‏:‏ يشق عليه الريح كل عشية جيوب الغمام بين بكر وأيم فوضع الأيم مكان الثييب وليس الأمر كذلك‏.‏

ليس الأيم الثيب في كلام العرب إنما الأيم التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً‏.‏

قال الله عز وجل ‏"‏ وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ‏"‏ وليس مراده تعالى نكاح الثيبات من النساء دون الأبكار وإنما يريد النساء اللواتي لا أزواج لهن‏.‏

وقال الشماخ بن ضرار‏:‏ يقر بعيني أن أحدث أنها - وإن لم أنلها - أيم لم تزوج وليس يسره أن تكون ثيباً‏.‏

وقد حكى أن بعض كبار الفقهاء وهو محمد بن ادريس الشافعي غلط في ذلك والصحيح ما ذكرناه‏.‏

ومثال هذا أيضا قول أبي تمام‏:‏ ما مقرب يختال في أشطانه ملآن من صلف به وتلهوق يريد بالصلف هنا الكبر والتيه وهذا مذهب العامة في استعمال هذه اللفظة‏.‏

وأما العرب فتقول‏:‏ صلفت المرأة عند زوجها إذا لم تحظ عنده وصلف الرجل أيضاً كذلك إذا كرهته‏.‏

قال إني أواصل من أردت وصاله بحبال لاصلف ولا لوام والصلف الذي لا خير عنده‏.‏

ومن أمثالهم رب صلف تحت الراعدة‏.‏

ومن ذلك أيضاً قول أبي عبادة‏:‏ شرطي الأنصاف إن قيل اشترط وصديقي من إذا صافي قسط وأراد بقسط عدل‏.‏

لأن الأمر عليه وليس الأمر كذلك وإنما يقال أقسط‏:‏ إذا عدل وقسط‏:‏ إذا جار‏.‏

قال الله تعالى ‏"‏ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ‏"‏ وقد يكون ما ذكرناه على جهة الحذف من الكلمة كما قال رؤبة ابن العجاج‏:‏ قواطناً مكة من ورق الحما يريد الحمام‏.‏

كقول خفاف بن ندبة‏:‏ كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد يريد كنواحي وكما قال غيره هو مضرس بن ربعي‏:‏ وطرت بمنصلي في يعملات دوامي الأيد يخبطن السريحا والوجه الأيدي ومن ذلك قول النجاشي‏:‏ قلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك أسقني أن كان ماؤك ذا فضل أو معبر الظهر ينبي عن وليته ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا يريد ما حج ربه‏.‏ وقال مالك بن حريم الهمداني‏:‏ فإن يك غثاً أو سميناً فانني سأجعل عينيه لنفسه مقنعا يريد لنفسه‏.‏

وقال أبو الطيب المتنبي‏:‏ تعثرت به في الأفواه ألسنها والبرد في الطرق والأقلام في الكتب وقد يكون على وجه الزيادة في الكلمة مثل أن يشبع الحركة فيها فتصير حرفا كما قال‏:‏ وأنت على الغواية حين ترمى وعن عيب الرجال بمنتزاح أي بمنتزح‏.‏

وقال غيره‏:‏ وانني حيث ما يسرى الهوى بصري من حيث ما نظروا أدنوا فانظور يريد أدنو فانظر‏.‏

وقال الآخر‏:‏ تنفي يداها الحصا في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف يريد الدراهم والصيارف‏.‏

وقد يكون إيراد الكلمة على الوجه الشاذ القليل وهو أردأ اللغات فيها لشذوذه‏.‏

والكثير أبداً خفيف كما يقول النحويون في خفة الأسماء لكثرتها‏.‏

ومن هذا قول البحتري‏:‏ فقوله باهت لغة رديئة شاذة‏.‏

والعربي المستعمل بهت الرجل يبهت فهو مبهوت ومنه قول المتنبي‏:‏ وإذا الفتى طرح الكلام معرضاً في مجلس أخذ الكلام اللذعنا فإن اللذ في الذي لغة شاذة قليلة‏.‏

ومنه قوله أيضاً‏:‏ ايفطمه التوراب قبل فطامه ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل فالتوراب لغة في التراب شاذة غير كثيرة‏.‏

وقد يكون لأن الكلمة بخلاف الصيغة في الجمع أو غيره كما قال الطرماح‏:‏ وأكره أن يعيب على قومي هجاي الأرذلين ذوي الحنات فجمع إحنة على غير الجمع الصحيح لأنها إحنة وإحن ولا يقال حنات‏.‏

وقد روى أبو بصير أن عبد الملك بن قريب الأصمعي قال‏:‏ كنا نظن أن الطرماح شيء حتى سمعنا قوله هذا البيت‏.‏

وكما قال الآخر‏:‏ من نسج داود أبي سلام يريد أبا سليمان‏.‏

ومن هذا الفصل أيضا أن يبدل حرف من حروف الكلمة بغيره كما قال الشاعر هو رجل من لها أسارير من لحم متمرة من الثعالي ووخز من أرانيها يريد من الثعالب وأرانبها‏.‏

وقال الآخر‏:‏ ومنهل ليس له حوازق ولضفادي جمة نقانق يريد ولضفادع‏.‏

ومنه أيضا إظهار التضعيف في الكلمة مثل قول الشاعر‏:‏ هو قعنب بن أم صاحب مهلا أعاذل قد جربت من خلقي أني أجود لأقوام وأن ضننوا وأما صرف ما لا ينصرف كقول حسان بن ثابت‏:‏ وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفآء ومنع الصرف مما ينصرف كما أنشدوا قول العباس بن مرداس‏:‏ وما كان حصن ولا حابس يفوقان كرداس في مجمع وكما قال البحتري‏:‏ هزج الصهيل كأن في نغماته نبرات معبد في الثقيل الأول فمنعا الصرف عن مرداس ومعبد‏:‏ وقصر الممدود كقول الآخر‏:‏ ومد المقصور على ما روى بعضهم‏:‏ سيغنيني الذي أغناك عني فلا فقر يدوم ولا غناء وحذف الأعراب للضرورة مثل قول امرىء القيس بن حجر‏:‏ فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل وتأنيث المذكر على بعض التأويل كقول الشاعر‏:‏ وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم وتذكير المؤنث كما قال الآخر‏:‏ هو عامر بن جوين الطائي فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها فإن هذا وأشباهه وما يجري مجراه وإن لم يؤثر في فصاحة الكلمة كبير تأثير فانني أوثر صيانتها عنه لأن الفصاحة تنبىء عن أختيار الكلمة وحسنها وطلاوتها‏.‏

ولها من هذه الأمور صفة نقص فيجب اطراحها‏.‏

على أن ما ذكرته يختلف قبحه في بعض المواضع دون بعض على قدر التأويل فيه وحكمه فأما إدخال الألف واللام على الفعل في نحو قول الشاعر‏:‏ يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا إلى ربنا صوت الحمار اليجدع وتشديد الكلمة المخففة مثل قول الشاعر‏:‏ وقول الآخر‏:‏ هو رؤبة ضخم يحب الخلق الأضخما وتحريك الياء التي تقع قبلها كسرة في الرفع والجر مثل قول الشاعر‏:‏ ما إن رأيت ولا أرى في مدتي كجواري يلعبن في الصحراء فإن هذا كله داخل في باب الزيادة التي ذكرناها وأشرنا إليها وهي مكروهة على ما تقدم‏.‏

والسادس‏:‏ أن لا تكون الكلمة قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره فإذا أوردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت وأن كملت فيها الصفات التي بيناها‏.‏

ومثال هذا قول عروة بن الورد العبسي‏:‏ قلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عند ما وان رزح والكنيف أصله الساتر ومنه قيل للترس كنيف غير أنه قد استعمل في الآبار التي تستر الحدث وشهرتها‏.‏

فأنا أكرهه في شعر عروة وإن كان ورد موردا صحيحاً لموافقة هذا العرف الطارىء‏.‏

على أن لعروة عذراً وهو جواز أن يكون هذا الاستعمال حدث بعده‏.‏

بل لا أشك أنه كذلك لأن العرب أهل الوبر لم يكونوا يعرفون هذه الآبار‏.‏

فهو وأن كان معذوراً وغير ملوم فبيته مما يصح التمثيل به‏.‏

أعزز على بان أراك وقد خلت من جانبيك مقاعد العواد فإيراد مقاعد في هذا البيت صحيح لأنه موافق لما يكره ذكره في مثل هذا الشان‏.‏

لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل اضافته إليهم وهم العواد‏.‏

ولو انفرد كان الأمر فيه سهلا‏.‏

فأما أضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لاخفاء به‏.‏

ومن هذا النحو قول أبي تمام‏:‏ متفجر نادمته فكأنني للدلو أو للمرزمين نديم فالدلو ها هنا أحد البروج ولا أختاره لموافقته اسم الدلو المعروف‏.‏

وأنت تجد بأقرب تأمل فرق ما بين قول القائل لمن يمدحه‏:‏ أنت المرزم جودا والجنة لمن تقصده الأيام عزا‏.‏

وبين قوله‏:‏ أنت الدلو كرماً والكنيف لطريد الدهر سعة‏.‏

والمعنيان صحيحان‏.‏

وحسن أحدهما وقبح الآخر ظاهر لاخفاء به‏.‏

ولولا ما ذكرته ونبهت عليه لم يكن لذلك وجه ولا علة‏.‏

ومن هذا أيضاً قول أبي صخر الهذلي‏:‏ قد كان صرم في الممات لنا فعجلت قبل الموت بالصرم وإنما أنكرت هذا لموافقته أيراد العامة هذه اللفظة على هذه الصيغة بالصاد فيما هي بالسين فكان ايثاري تجنبها لذلك‏.‏

فأما قول عمرو‏:‏ وكم من غائط من دون سلمى قليل الأنس ليس به كتيع فجار هذا المجرى‏.‏

والغائط البطن من الأرض إلا أنه يستعمل الآن في الحدث على ذلك الأصل‏.‏

فذكره قبيح على ما تقدم‏.‏

لكن عمرو معذور كعروة لأنه على ما ذكر وعرف حدث‏.‏

فلعل عمراً قبله‏.‏

ومما يوضح ما ذكرته لك ويبينه أنك تجد تصرم في قول أبي عبادة‏:‏ تصرم الدهر لا وصل فيطمعني فيما لديك ولا يأس فيسليني مختارا مرضياً‏.‏

وكذلك يتصرم في الشعر المنسوب إلى يزيد بن معاوية وهو‏:‏ خذوا بنصيب من نعيم ولذة فكل وإن طال المدى يتصرم ولا يقبحان لمخالفتهما الأسم الذي ذكرته في اللفظ‏.‏

وهو قبيح في بيت الهذلي للموافقة لا على غير ما أعلمتك به‏.‏

ومنه أيضاً قول أبي تمام‏:‏ وعزائماً في الروع معتصمية ميمونة الأدبار والأقبال فالادبار من الألفاظ المكروهة لما ذكرته‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ يضحكن من أسف الشباب المدبر يبكين من ضحكات شيب مقمر لأن المدبر ها هنا مثل الادبار في البيت الأول والكلمة الفصيحة غيرهما على ما بين‏.‏

ومنه قول الشريف الرضي رحمه الله‏.‏

فإن جنابة هنا لفظة غير مرضية للوجه الذي ذكرته وأن كانت لولا ذلك فصيحة مختارة لخلوها من العيوب غيره‏.‏

والسابع‏:‏ مما قدمناه أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف فإنها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة‏.‏

ومن ذلك قول أبي نصر بن نباته‏:‏ فإياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم ألا أن مغناطيسهن الذوائب فمغناطيسهن كلمة غير مرضية لما ذكرته وأن كان فيها أيضاً عيوب أخر مما قدمناه‏.‏

ومن هذا النوع أيضاً قول أبي تمام‏:‏ فلأ ذربيجان اختيال بعد ما كانت معرس عبرة ونكال سمجت ونبهنا على استسماجها ما حولها من نضرة وجمال فقوله‏:‏ فلأذربيجان كلمة رديئة لطولها وكثرة حروفها وهي غير عربية ولكن هذا وجه قبحها‏.‏

وكذلك قوله في البيت الثاني‏:‏ أستسماجها ردىء لكثرة الحروف وخروج الكلمة بذلك عن المعتاد في الألفاظ إلى الشاذ النادر‏.‏

ونحو من هذا قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ إن الكريم بلا كرام منهم مثل القلوب بلا سويداواتها أنله باستماعكه محلا يفوت علوه الطرف الطموحا فليس بقبح قوله‏:‏ باستماعكه خفاء لكثرة الحروف على ما ذكرناه لا غير‏.‏

وكذلك قوله أيضاً‏:‏ العيس تعلم أن حوباواتها ربح إذا بلغتك أن لم تنحر وحوباواتها كلمة طويلة‏.‏

ومنه قوله أيضاً‏:‏ وليس في كل الروايات وإلى محمد ابتعثت قصائدي ورفعت للمستنشدين لوائي فالمستنشدين كلمة كثيرة الحروف على ما تراه‏.‏

وهذا قد يستدل به على غيره وأن امثاله كثيرة والثامن‏:‏ أن تكون الكلمة مصغرة في موضع عبر بها فيه عن شيء لطيف أو خفي أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك‏.‏

فإني أراها تحسن به ويجب ذكره في الأقسام المفصلة ولعل ذلك لموقع الاحصار بالتصغير ومثال ذلك قول الشريف الرضي رحمه الله‏:‏ يولع الطل بردينا وقد نسمت رويحة الفجر بين الضال والسلم فلما كانت الريح المقصودة هناك نسيما مريضاً ضعيفاً حسنت العبارة عنه بالتصغير وكان للكلمة طلاوة وعذوبة‏.‏

ومثاله أيضا قول أبي العلاء صاعد بن عيسى الكاتب‏:‏ إذا لاح من برق العقيق وميضة تدق على لمح العيون الشوائم أفلا تراه لما أراد أنها خفية تدق على من ينظرها حسن التصغير في العبارة عنها‏.‏

وكذلك قول إذا شربت رأيت الماء فيها أزيرق ليس يستره الجران لما كان مآء قليلا يلوح ودونه حائل من أعناق الإبل وساتر على كل حال حسن وروده مصغراً‏.‏

وكذلك قول الرضى رحمه الله‏:‏ زال وأبقي عند ورائه جذيم مال عرقته الحقوق فصغر لما أراد القلة‏.‏

وأما قول المخزومي‏:‏ وغاب قمير كنت أرجو طلوعه وروح رعيان ونوم سمر فإنما جعله قميراً لأنه كان هلالا غير كامل ويمكن الدلالة على ذلك بقوله‏:‏ إنه غاب في أول الليل وقت نوم السمر والقمر إذا كان هلالا غاب في ذلك الوقت بلا شك‏.‏

وهذا تصغير مختار في موضعه فأما الأسماء التي لم ينطق بها إلا مصغرة كاللجين والثريا وما أشبههما فليس للتصغير فيهما حسن يذكر لأنه غير مقصود به ما قدمناه ولذلك لا أختار التصغير في قول أبي الطيب‏:‏ إذا عذلوا فيها أجبت بأنة حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل لأنه عار من الوجه الذي ذكرته‏.‏

فأما ما يذهب إليه من التصغير بمعنى التعظيم في مثل قول الشاعر‏:‏ وكل أناس سوف يدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل فقد حكى أن أبا العباس المبرد كان ينكره ويزعم أن التصغير في كلام العرب لم يدخل إلا لنفي التعظيم ويتأول دويهية وما يجري مجراها بأن يقول أراد خفاءها في الدخول فصغرها لهذا الوجه وهو ضد التعظيم المذكور ويقوى عندي ما ذهب إليه أبو العباس المبرد أنهم إذا وضعوا التصغير أمارة للتحقير والتعظيم معاً فقد زالت الفائدة به ولم يكن دليلا على واحد منهما بل يرجع إلى المقصود باللفظة ويلتمس بيان ذلك من جهة المعنى دون اللفظ فليس للتصغير تأثير‏.‏

وعلى كلا القولين فليس التصغير عندي وجهاً من وجوه الفصاحة إلا في الموضع الذي ذكرته دون ما يسمونه تصغيراً في التعظيم وعلى هذا أحمل قول المتنبي‏:‏ أحاد أم سداس في أحاد لييلتنا المنوطة بالتناد فلا أختار التصغير في لييلتنا لأنه تصغير تعظيم وليس على الوجه الذي ذكرته‏.‏

فأما قول أبي نصر بن نباتة يصف الحية‏.‏

ففي الهضبة الحمراء إن كنت ساريا أغيبر يأوى في صدوع الشواهق فإن تصغيره ها هنا مرضى على ما ذكرته لأن الحية توصف بأنها لا تغتذي إلا بالتراب قد جف لحمها وذهبت الرطوبة منها ألا ترى إلى قول النابغة‏:‏ فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع ظللت بين أصيحابي أكفكفه وظل يسفح بين العذر والعذل فالتصغير فيه مختار لأن العادة جارية في قلة عدد من يصحب الأنسان في مثل هذه المواضع ولهذا كانوا في الأكثر ثلاثة‏.‏

وجرى ذكر الصاحبين والخليلين في الشعر كثيراً لهذا السبب كما قال امرؤ القيس‏:‏ خليلي مر أبي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب وقال أبو نصر بن نباتة‏:‏ قفا قاقضياني لذة من حديثه علانية إن السرار مريب وأمثال هذا يعرفها كل أحد وهي أكثر من أن يحاط بها أو تحصى‏.‏

فهذه الأقسام الثمانية هي جملة ما يحتاج إلى معرفته في اللفظة لمفردة بغير تأليف فتأملها وقس عليها ما يرد عليك من الألفاظ فإنك تعلم الفصيح منها من غيره إن شاء الله تعالى‏.‏

الكلام في الألفاظ المؤلفة وإذ كنا قد تكلمنا على الكلمة المفردة وقلنا فيها ما يستدل به على غيره فلنذكر الآن ما يحضرنا من القول في الكلام المؤلف وهم القسم الثاني ما أبتدأنا بذكره أولاً ونقول قبل ذلك‏:‏ إن كل صناعة من الصناعات فكمالها بخمسة أشياء على ما ذكره الحكماء الموضوع وهو الخشب في صناعة النجارة والصانع وهو النجار والصورة وهي كالتربيع المخصوص إن كان المصنوع كرسياً والآلة مثل الميشار والقدوم وما يجري مجراهما والغرض وهو أن يقصد على هذا المثال الجلوس فوق ما يصنعه‏.‏

وإذا كان الأمر على هذا ولا تمكن المنازعة فيه وكان تأليف الكلام المخصوص صناعة وجب أن نعتبر فيها هذه الأقسام‏.‏

فنقول‏:‏ إن الموضوع هو الكلام المؤلف من الأصوات على ما قدمته‏.‏

وقد ذكرت فيه ما يقنع طالب هذا العلم وشرحت من حال اللفظة بانفرادها وما يحسن فيها ويقبح ما اعتمدت في تلخيصه وإيضاحه على أنني لم أرجع فيه إلى كتاب مؤلف ولا قول يروى ولا وجدت ما ذكرته مجموعا في مكان وإنما عرفته بالدربة وتأمل أشعار الناس وما نبه أهل العلم في أثباتها ولهذا لست أدعي السلامة من الخلل ولا العصمة من الزلل وأعترف بالتقصير وأسأل من ينظر في كتابي هذا بسط عذري والصفح عما لعله يثيره مسلكا صعبا وألفت منه تأليفاً مقتضباً يجب على المنصف الإعراض عما يجدني أشير إلى التجاوز عنه والتغمد له‏.‏

فأما الصانع المؤلف فهو الذي ينظم الكلام بعضه مع بعض كالشاعر والكاتب وغيرهما وسأذكر بعون الله في موضع من هذا الكتاب ما يفتقر المؤلف إلى معرفته ويحتاج إلى علمه‏.‏

وأما الصورة فهي كالفصل للكاتب والبيت للشاعر وسما جرى مجراهما وأما الآلة فأقرب ما قيل فيها إنها طبع هذا الناظم والعلوم التي اكتسبها بعد ذلك ولهذا لا يمكن أحداً أن يعلم الشعر من لا طبع له وإن جهد في ذلك لأن الآلة التي يتوصل بها غير مقدورة لمخلوق‏.‏

ويمكن تعلم سائر الصناعات لوجود كل ما يحتاج إليه من آلاتها‏.‏

وأما الغرض فبحسب الكلام المؤلف فإن كان مدحاً كان الغرض به قولا ينبئ عن عظم حال الممدوح وإن كان هجوا فبالضد وعلى هذا القياس كل ما يؤلف وإن تألمته وجدته كذلك‏.‏

وقد ذهب أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب إلى أن المعاني في صناعة تعلم الكلام موضوع لهل وذكر ذلك في كتابه الموسوم بنقد الشعر وقال في كتابه في الخراج وصناعة الكتابة عند كلامه على البلاغة إن اللغة تجرى مجرى الموضوع لصناعة البلاغة وهذان القولان على ما تراه مختلفان والصحيح منهما ما قدمناه وذكره في كتاب الخراج‏.‏

ويجب أن يقال له إذا ذهب إلى أن المعاني هي الموضوع خبرنا عن الألفاظ التي أخذها هذا الصانع المؤلف فألفها إذا لم تكن عندك موضوعاً لصناعة فما منزلتها من الأقسام التي اعتبرها الحكماء في كل صناعة والتأمل قاض بصحتها ونحن نرى الألفاظ تأثيرها في هذه الصناعة التي كلامنا عليها تأثير بين الحسن والقبح ولا يجوز أن تكون مع هذه العلقة الوكيدة عرية منها فإن قلت إنها الآلة قلنا لك وأي صناعة من الصناعات تصاحبها الآلة بعد فراغ الصانع منها حتى تصير أصلا والمصنوع تابعاً لها فإنا نجد الألفاظ على هذه الصفة فبطل هذا الوجه أن يكون آلة وفساد أن تكون الألفاظ هي الصانع المؤلف أو الصورة المصنوعة أو العرض المقصود ظاهر لا يخفى على أحد فمتى أخرجت الألفاظ من أن تكون موضوعاً لصناعة التأليف أخرجتها من جملة الأقسام المعتبرة في كل صناعة ونحن نجد تعلقها ظاهراً‏.‏

فإن قال لنا ما تقول انتم في المعاني مع أن علقتها أيضاً وكيدة قلنا المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع وهي التي تكمل الأقسام المذكورة فأما الألفاظ فليست من عمله وإنما له منها تأليف بعضها مع بعض حسب وقد وقفت في بعض المواضع على كلام في هذه الصناعة لا أعلم الآن صاحبه قدامة أو غيره - لأني قد أنسيت الكتاب الذي وجدته فيه - يدل على أن الألفاظ موضوع كما قلنا إلا أنه يدعي أن الناظم متى ألف لفظة رديئة فليس ذلك بعيب عليه كما أن النجار إذا صنع كرسياً من خشب ردئ فليس بعيب في صناعته وقد أحكمها كون الموضع الذي هو الخشب رديئاً‏.‏

وهذا الذي ذكره هذا القائل فاسد وذلك أن النجار يعاب إذا كان قليل البصيرة بموضوع صناعته ولو تمكن من عمل ذلك الكرسي الذي مثل به من خشب مرضى فعدل عنه إلى خشب ردئ جهلا منه بالمختار من هذا الجنس كان معيباً عند أهل صناعته‏.‏

وإنما يتوجه له العذر إذا سلم إليه خشب ردئ لتظهر صناعته فيه فإنه عند ذلك لا يعاب لأجل الخشب فأما ناظم الكلام فقادر على اختيار موضوعه غير محظور عليه تأليف ما يؤثره منه فمتى عدل عن ذلك جهلا أو تسمحاً توجه الإنكار واللوم عليه وكان أهلاً له وجديراً به‏:‏ على أن كلامنا في الصورة نفسها ولا شبهة في قبح صورة الكرسي المصنوع من ردئ الخشب وإن كان النجار قد أحكم عمله‏.‏

ومع هذا البيان كله فالفصاحة عبارة عن حسن التأليف في الموضوع المختار فإذا كنت قد ذكرت الموضع والوجه في اختياره وعلى أي صفة يكون المرضى منه والمكروه بما فيه مقنع وكفاية ثم شرعت الآن في الكلام على التأليف بحسب ذلك وبينت منه الوجوه التي بها يحسن أو يقبح كان الكلام على التأليف بحسب ذلك وبينت منه الوجوه التي بها يحسن أو يقبح كان الكلام في معرفة الفصاحة وحقيقتها واضحاً جلياً وأمكن من لم تكن له بهادرية ولا معرفة الفرق بين فصيح الكلام وغيره باعتبار الصفات التي ذكرتها وكانت منزلة هذا الكتاب لمن لا يعرف البلاغة وطلاوة الكلام منزلة العروض لمن لا ذوق له يميز به بين صحيح النظم من فاسده والنحو لمن لا يعرف طبعاً وعادة وإنما يتكلف ويتصنع وليس يمكن إيضاح الفصاحة لمن يجهلها إلا بهذا السبب وعلى هذا النحو لأن من له بها معرفة وسابق علم إنما حصل له ذلك بالمخالطة والمناشدة وتأمل الأشعار الكثيرة والكلام المؤلف على طول الوقت وتراخى الأزمنة وليس يمكنه أن يحضر لمن أراد تعليمه كل بيت سمعه وفصل تأمله ولفظة كرهها ومعنى حكم بفساده أو بصحته لأن هذا يحتاج إلى الزمان الطويل والأيام الكثيرة بل لا يمكن حصوله البتة فلا طريق إلى العلم بما شرحته إلا من هذا النحو الذي قصدته والطريق الذي سلكت فيه‏.‏

فأما من يفرق بين الكلام المختار وغيره فإنه وإن كان غير مفتقر إلى كتابي هذا كافتقار العارى من هذه الصناعة الراغب في اقتباسها فهو محتاج إليه من وجه آخر منزلته أيضاً منزلة العروض والنحو لصاحبي الذوق والطبع لأن العالم بالفصاحة إذا قطع على فصاحة بيت من قصيدة أو فصل من رسالة أو كلمة أو ما أشبه ذلك وفضله على غيره لم يمكنه أن يبين من أين حكم ولا لأي وجه فضل بل إنما يفزع إلى مجرد دعواه ومحض قوله فإذا عرف ما بينته وفصلته في هذا الكتاب علل واستدل وذكر الوجوه والأسباب كما أن العارف صحيح النظم بذوقه والمعرب بطبعه وعادته فإذا وقف على علم العروض والنحو علل في البيت الموزون والكلمة المعربة وقال هذا إنما كان صحيح الوزن لأنه من الدائرة الفلانية والبحر الفلاني وضربه كذا وعروضه كذا وعدد أجزائه كذا وذكر ما يحسن فيه من الزحاف ويقبح وفصل ما يفصله العروضيون‏.‏

وقال في الكلمة المعربة إنما كانت مثلا مرفوعة لأنها فاعلة والفاعل في كلام العرب مرفوع وما يجرى هذا المجرى‏.‏

وعلى مثل هذا النحو يقول في الفاسد الذي ينفر منه ذوقه أو يكرهه طبعه ويعلله على حد هذا التعليل الذي ذكرته‏.‏

ونبتدئ الآن بالقول في تأليف الكلام على ما قدمناه من أن القسم الثاني من الفصاحة صفات توجد في التأليف وتعتبر ما يتفق فيه من الأقسام الثمانية المذكورة في اللفظة المفردة‏.‏

فنقول‏:‏ إن الأول منها أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج وهذا بعينه في التأليف وبيانه أن يجتنب الناظم تكرر الحروف المتقاربة في تأليف الكلام كما أمرناه بتجنب ذلك في اللفظة الواحدة بل هذا في التأليف أقبح وذلك أن اللفظة المفردة لا يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثل ما يستمر في الكلام المؤلف إذا طال واتسع‏.‏

وما زال أصحابنا يعجبون من هذا البيت‏:‏ لو كنت كنت كتمت الحب كنت كما كنا نكون ولكن ذاك لم يكن وليس يحتاج إلى دليل على قبحه للتكرار أكثر من سماعه وقدروى أن أبا تمام لما أنشد أحمد بن أبي داود قوله‏:‏ فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن يرضى المؤمل منك إلا بالرضى قال له إسحاق بن إبراهيم الموصلى‏:‏ لقد شققت على نفسك يا أبا تمام والشعر أسهل من هذا وكنت حاضراً عند شيخنا أبي العلاء وقد قرئت عليه قصيدة لأبي الطيب فلما وصل القارئ إلى هذا البيت‏:‏ ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف قال هذا والله شعر مدبر وكان من العصيبة لأبي الطيب على الصفة التي اشتهرت عنه‏.‏

فأما قول الآخر‏:‏ وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر فمبنى من حروف متقاربة ومكررة ولهذا يثقل النطق به حتى يزعم بعض الناس أنه من شعر الجن ويختبر المتكلم بإنشاده ثلاث مرات من غير غلط ولا توقف‏.‏

وكذلك قول الآخر‏:‏ لم يضرها والحمد لله شئ وانثنت نحو عزف نفس ذهول فإن المصراع الثاني من هذا البيت يثقل التلفظ به وسماعه لما فيه من تكرر حروف الحلق وقد ذهب أبو الحسن على بن عيسى الرماني إلى أن التأليف على ثلاثة أضرب متنافر ومتلائم في الطبقة الوسطى ومتلائم في الطبقة العليا‏.‏

قال والمتلائم في الطبقة الوسطي كقول الشاعر‏:‏ رمتني وستر الله بيني وبينها عشية آرام الكناس رميم قال والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله وذلك بين لمن تأمله والفرق بينه وبين غيره من الكلام في تلاوم الحروف على نحو الفرق بين المتنافر والمتلائم في الطبقة الوسطى‏.‏

وهذا الذي ذكره غير صحيح والقسمة فاسدة وذلك أن التأليف على ضربين متنافر ومتلائم وقد يقع في المتلائم ما بعضه أشد تلاوماً من بعض على حسب ما يقع التأليف عليه ولا يحتاج أن يجعل ذلك قسما ثالثاً كما يكون من المتنافرة ما بعضه أشد في التنافر أكثر من بعض ولم يجعل الرماني ذلك قسماً رابعاً‏.‏

فأما البيتان فليسا في هذا الموضع بأحق من غيرهما‏.‏

وأما قوله إن القرآن من المتلائم في الطبقة العليا وغيره في الطبقة الوسطى وهو يعنى بذلك جميع كلام العرب فليس الأمر على ذلك ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدني معرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب هي ما يضاهى القرآن في تأليفه ولعل أبا الحسن يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة والأمر بحمد الله أظهر من أن يعضده بمثل هذا القول الذي ينفر عنه كل من علق من الأدب بشيء أو عرف من نقد الكلام طرفا وإذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك‏.‏

وإذا كان الأمر على هذا فنحن بمعزل عن ادعاء ما ذهب إليه من أن بين تأليف حروف القرآن وبين غيره من كلام العرب كما بين المتنافر والمتلائم ثم لو ذهبنا إلى أن وجه إعجاز القرآن الفصاحة وادعينا أنه أفصح من جميع كلام العرب بدرجة ما بين المعجز والممكن لم يفتقر في ذلك ادعاء ما قاله من مخالفة تأليف حروفه لتأليف الحروف الواقعة في الفصيح من كلام العرب وذلك أنه لم يكن بنفس هذا التأليف فقط فصيحا وإنما الفصاحة لأمور عدة تقع في الكلام من جملتها التلاؤم في الحروف وغيره‏.‏

وقد بينا بعضها وسنذكر الباقي فيم ينكر على هذا أن يكون تأليف الحروف في القرآن وفصيح كلام العرب واحداً ويكون القرآن في الطبقة العليا لما ضام تأليف حروفه من شروط الفصاحة التي التأليف جزء يسير منها فقد بان أن على كلا القولين لا حاجة بنا إلى ادعاء ما ادعاه مع وضوح بطلانه وعدم الشبهة فيه ثم يقال له أليس التلاؤم معتبراً في تأليف حروف الكملة المفردة على ما ذكرناه فيما تقدم فلا بد من نعم‏!‏ فيقال له فما عندك في تأليف كل لفظة من ألفاظ القرآن بانفرادها أهو متلائم في الطبقة العليا أم في الطبقة الوسطى فإن قال في الطبقة العليا قيل له أو ليس هذه اللفظة قد تكلمت بها العرب قبل القرآن وبعده ولولا ذلك لم يكن القرآن عربيا ولا كانت العرب فهمته فقد أقررت الآن أن في كلام العرب ما هو متلائم في الطبقة العليا وهو الألفاظ المفردة ولم يتوجه عليك في ذلك ما يفسد وجه إعجاز القرآن فهلا قلت إن في كلامهم المؤلف من الألفاظ ما هو أيضاً كذلك فإن علم الناظر بأحدهما كالعلم بالآخر وإن قال إن كل لفظة من ألفاظ القرآن متلائمة في الطبقة الوسطى قيل له أولاً إن مشاركة القرآن لطبقة ألفاظهم على هذا الوجه أيضاً باقية ثم ما الفرق بينك وبين من ادعى أن التلائم من ألفاظ القرآن في الطبقة الوسطي فإن أحد الموضعين كالآخر على أن اللفظة المفردة يظهر فيها التلاؤم ظهورا بينا بقلة عدد حروفها واعتبار المخارج وإن كانت متباعدة كان تأليفها متلائماً وإن تقاربت كان متنافراً ويلتمس ذلك بما يذهب إليه من اعتبار التوسط دون البعد الشديد والقرب المفرط فعلى القولين معاً اعتبار التلاؤم مفهوم وليس ينازعنا في كلمة من كلم القرآن إذا أوضحنا لك تأليفها وتقول ليس هذا في الطبقة العليا إلا ونقول مثله في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض لأن الدليل على الموضعين واحد فقد بان أن الذي يجب اعتماده أن التأليف على ضربين متلائم ومتنافر وتأليف القرآن وفصيح كلام العرب من المتلائم ولا يقدح هذا في وجه من وجوه إعجاز القرآن والحمد لله‏.‏

وقد ذهب على بن عيسى أيضاً إلى أن التنافر أن تتقارب الحروف في المخارج أو تتباعد بعداً شديداً وحكى ذلك عن الخليل بن أحمد‏.‏

ويقال إنه إذا بعد البعد الشديد كان بمنزلة الطفر وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشى المقيد لأنه بمنزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه وكلاهما صعب على اللسان والسهولة من ذلك في الاعتدال ولذلك وقع في الكلام الادغام والابدال والذي أذهب أنا إليه في هذا ما قدمت ذكره ولا أرى التنافر في بعد ما بين مخارج الحروف وإنما هو في القرب ويدل على صحة ذلك الاعتبار فإن هذه الكلمة الم غير متنافرة وهي مع ذلك مبنية من حروف متباعدة المخارج لأن الهمزة من أقصى الحلق والميم من الشفتين واللام متوسطة بينهما وعلى مذهبه كان يجب أن يكون هذا التأليف متنافراً لأنه على غاية ما يمكن من البعد وكذلك أم وأو لأن الواو من أبعد الحروف من الهمزة‏.‏

وليس هذان المثالان مثل عح ولا سز لما يوجد فيهما من التنافر لقرب ما بين الحرفين في كل كلمة ومتى اعتبرت جميع الأمثلة لم تر للبعد الشديد وجها في التنافر على ما ذكره فأما الادغام والابدال فشاهدان على أت التنافر في قرب الحروف دون بعدها لأنهما لا يكادان يردان في الكلام إلا فراراً من تقارب الحروف وهذا الذي يجب عندي اعتماده لأن التتبع والتأمل قاضيان بحضته وإذا ثبت ما ذكرناه فقد بان أن تكرر الحروف والكلام يذهب بشطر من الفصاحة وقد كان بعض العلماء بالشعر يعيب في قول أبي تمام‏:‏ كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي ومتى ما لمته لمته وحدى تكرر حروف الحلق على سلامة المعنى واختيار الألفاظ‏.‏

فأما قول أبي الطيب‏:‏ العارض الهتن بن العارض الهتن بن العارض الهتن بن العارض الهتن فمن أقبح ما يكون من التكرار وأشنعه وإذا كان يقبح تكرار الحروف المتقاربة المخارج فتكرار الكلمة بعينها أقبح وأشنع وأما قوله أيضاً‏:‏ وأنت أبو الهيجا بن حمدان يابنه تشابه مولود كريم ووالد وحمدان حمدون وحمدون حارث وحارث لقمان ولقمان راشد فليس هذا التكرار عندي قبيحاً لأن المعنى المقصود لا يتم إلا به‏.‏

وقد اتفق له أن ذكر أجداد الممدوح على نسق واحد من غير حشو ولا تكلف لأن أبا الهيجاء هو عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد‏.‏

ولو ورد هذا الكلام نثراً لم يزد على هذه الصفة فلما عرض في هذا التكرار معنى لا يتم إلا به سهل الأمر فيه وكان البيت مرضياً غير مكروه‏.‏

وعلى ذلك يجب أن يحمل كل تكرار يجرى هذا المجرى‏.‏

وقيل أذن أبو مهدية الأعرابي يوماً فقال أشهد أن لا إله إلى الله مرة فقيل له‏:‏ خالفت السنة إنما هو أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله فقال أو ليس المعنى واحداً ونربح التكرار الذي هو عى وجارنا في بعض الأيام شيخنا أبو العلاء بن سليمان قول الشاعر‏:‏ ألا طرقتنا بعد ما هجعوا هند وقد سرن خمسا واتلأب بنا نجد ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأى والبعد وقال من حبه لهذه المرأة لم ير تكرير اسمها عيباً ولأنه يجد للتلفظ باسمها حلاوة فلم يرمن الاعتذار للتكرير إلا هذا العذر فأما قول أبي الطيب‏:‏ لك الخير غيري رام من غيرك الغنى وغيري بغير اللاذقية لاحق فلا خفاء بقبحه للتكرار وكذلك قوله‏:‏ ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ويجهل علمي أنه بي جاهل لأنه ذكر الجهل خمس مرات وكرر بي فلم يبق من ألفاظ البيت ما لم يعده إلا اليسير‏.‏

وأما قوله أيضاً‏:‏ فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل عيش كلهن قلاقل غثاثة عيشى أن تغث كرامتي وليس بغث أن تغث المآكل فقد اتفق له أن كرر في البيت الأول لفظة مكررة الحروف فجمع القبح بأسره في صيغة اللفظة نفسها ثم في إعادتها وتكرارها واتبع ذلك بغثاثة في البيت الثاني وتكرار تغث فلست تجد ما تزيد على هذين البيتين في القبح ولم يزل الناس على وجه الدهر منكرين قول امرئ القيس بن حجر‏:‏ ألا إنني بال على جمل بال يقود بنا بال ويتبعنا بال وهو لعمري قبيح وإن كان بيت هذا الفن الذي لا غاية وراءه في القبح قول مسلم بن الوليد الأنصاري‏:‏ سلت وسلت ثم سل سليلها فأتى سليل سليلها مسلولا ولولا أن هذا البيت مروي لمسلم وموجود في ديوانه لكنت أقطع على أن قائله أبعد الناس ذهناً وأقلهم فهماً وممن لا يعد في عقلاء العامة فضلاً عن عقلاء الخاصة ولكنى أخال خطرة من الوسواس أو شعبة من البرسام عرضت له وقت نظم هذا البيت فليته لما عاد إلى صحة مزاجه وسلامة طباعه جحده فلم يعترف به ونفاه فلم ينسبه إليه وما أضيف هذا وأمثاله إلا إلى عوز الكمال في الخلقة وعموم النقص لهذه الفطرة وأما قول أبي الطيب‏:‏ قبيل أنت أنت وأنت منهم وجدك بشر الملك الهمام فقبيح للتكرار وقد زاده قبحا وقوعه بغير فصل‏.‏

والحروف التي تربط بعض الكلام ببعض وتدل على معنى في غيرها كما يقول النحويون يبقح تكررها في الكلام وإن اختلفت ألفاظها وذلك لأنها جنس واحد ومشتركة في المعنى وإن تميزت فائدة بعضها من بعض‏.‏

ومما يسهل الأمر فيها قليلاً وقوع الفصل بينها بكلمة من غيرها فأما أن ترد على نحو ما قال أبو الطيب‏:‏ وتسعدني في غمرة بعد غمرة سبوح لها منها عليها شواهد فذلك العيب الذي لا يتوجه عذر فيه وقد أنكر أبو الفرج قدامة ابن جعفر الكاتب ما ذكرناه من قبح تكرر حروف الرباطات وقال في كتابه في الخراج وصناعة الكتابة فأما له منه أو منه عليه أو به له أو ما جرى هذا المجرى ففيه قبح وسبيل ذلك إذا وقع أن يحتال في فصل ما بين الحرفين بكلمة مثل أن يأتي ما يحتاج إلى أن يقال فيه أقمت شهيداً به عليه‏.‏

فيقال أقمت عليه شهيداً به ثم قال بعد أوراق يسيرة‏:‏ وبلغني أن المأمون أمر عمرو بن مسعدة يوما أن يكتب لرجل له به عناية فأنسي أبو الفرج ما قدمه وسها عما أنكره وقد كان يمكنه أن يعبر عما قاله أولا فيقول لرجل له عناية به ويجب أن يجعل هذا الزلل عذرنا فيما لعلنا أن نأتي به في هذا الكتاب من لفظة قد أنكرناها وأمرنا بتجنبها فإن الإنسان عم عن عيبه‏.‏

ولنا بمن ذكرناه أسوة‏.‏

وهذا الذي أنكرناه من تكرار الألفاظ فن قد أولع به الشعراء والكتاب من أهل زماننا هذا حتى لا يكاد الواحد منهم يغفل عن كلمة واحدة فلا يعيدها في نظمه أو نثره ومتى اعتبرت كلامهم وجدته على هذه الصفة‏.‏

وما أعرف شيئاً يقدح في الفصاحة ويغض من طلاوتها أظهر من التكرار لمن يؤثر تجنبه وصيانة نسجه عنه‏.‏

إذ كان لا يحتاج إلى كبير تأمل لا دقيق نظر‏.‏

وقلما يخلو واحد من الشعراء المجيدين أو الكتاب من استعمال ألفاظ يديرها في شعره حتى لا يخل في بعض قصائده بها‏.‏

فربما كانت تلك الألفاظ مختارة يسهل الأمر في إعادتها وتكريرها إذا لم تقع إلا موقعها‏.‏

وربما كانت على خلاف ذلك‏.‏

وقد كان أبو الحسن مهيار بن مرزويه ممن غرى بلفظة طين وطينة فما وجدت له قصيدة تخلو من ذلك إلا اليسير حتى وضع هذه اللفظة تارة في غير موضعها ومستعارة لما لا يليق بها وأقرها مقرها في بعض الأماكن ووافق بينها وبين ما ألفت معها‏.‏

وذلك موجود في شعره لم يتتبعه‏.‏

فهذا وإن لم يكن محموداً عندي فهو أصلح من التكرار في القصيدة الواحدة أو البيت الواحد‏.‏

فأما قول بعضهم‏:‏ ولولا دموعي كتمت الهوى ولولا الهوى لم تكن لي دموع فليس من التكرار المكروه لما قدمته في بيت أبي الطيب وذلك أن المعنى مبنى عليه ومقصور على إعادة اللفظ بعينه‏.‏

وهذا حد يجب أن تراعيه في التكرار فمتى وجدت المعنى عليه ولا يتم إلا به لم يحكم بقبحه وما خالف ذلك قضيت عليه بالاطراح ونسبته إلى سوء الصناعة‏.‏

وقال أبو الفتح بن جنى‏.‏

قلت لأبي الطيب المتنبي‏:‏ إنك تكرر في شعرك ذا وذي كثيراً ففكر ساعة ثم قال‏:‏ إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد‏.‏

فقلت‏:‏ صدقت إلا أن المادة واحد وأما القسم الثاني من الثمانية المذكورة أولاً وهو أن تجد للفظة في السمع حسناً ومزية على غيرها لا من أجل تباعد الحروف فقط بل لأمر يقع في التأليف ويعرض في المزاج كما يتفق في بعض النقوش على ما بيناه فيما تقدم فإن هذا إنما يكون في التأليف إذا ترادفت الكلمات المختارة فيوجد الحسن فيه أكثر وتزيد طلاوته على ما لا يجمع من تلك الكلمات إلا القليل‏.‏

وهذا لعمري إنما يرجع إلى اللفظة بانفرادها وليس للتأليف فيه إلا ما أثاره التواتر والترادف وكذلك الثالث والرابع من الأقسام وهما أن تكون الكلمة غير وحشية ولا عامية لأن هذين القسمين أيضاً لا علقة للتأليف بهما‏.‏

وإنما يقبح إذا كثر فيه الكلام الوحشي أو العامي على حد ما يحسن إذا كثر فيه الكلام المختار فهو يرجع إلى اللفظة المفردة كما قلناه‏.‏

وعلقة التأليف ما قدمناه من حكم الاسهاب في إيراد المحمود والمذموم إلا أن يتفق لفظة لم تبتذ لها العامة بانفرادها وإنما تستعملها مضافة إلى غيرها فيكون التأليف على هذا الغرض عامياً بحكم ما أفادته الضافة لتلك اللفظة وإذا اتفق هذا وجب تجنبها مضافة والاحتراز من الصيغة التي تعرض فيها بعض الوجوه المذمومة‏.‏

وأما الخامس وهو أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح وللتأليف بهذا القسم علقة وكيدة لأن إعراب اللفظة تبع لتأليفها من الكلام وعلى حكم الموضع الذي وردت فيه‏.‏

ولهذه الجملة تفصيل طويل إذا ذكرناه عدلنا عن الغرض المقصود بهذا الكتاب وشرعنا في صريح النحو ومحض علم الإعراب‏.‏

ولذلك كتب موضوعة له ومقصورة عليه تغنى الناظر فيها عما نذكره في كتابنا هذا ويجد ما يبتغيه هناك مستوفى مستقصى فإن قال لنا قائل‏:‏ إني إذا أنعمت النظر وأحسنت الفكر واعتبرت قول حسان‏:‏ يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل وغيرت الإعرابي عن وجهه فرفعت المخفوض وخفضت المرفوع وأتيت بما لا يسيغه تأويل ولا يتوجه في مثله عذر ووجدت فصاحة هذا البيت على ما كانت عليه وهو جار على القانون العربي ومتى اعتبرت باقي الأقسام وجدت الأمر فيه على ما ذكرتموه ومخالفة لحكم هذا النوع لتأثيرها في الفصاحة ورونق الكلام وهذا يوجب عليكم الامتناع من إيراد هذا القسم في الجملة والاقتصار على ما تشهد النفوس بصحته ويقضي التأمل بتقبله‏.‏

وقيل له‏:‏ إننا لا ننكر أن يكون بعض ما ذكرناه من الأقسام أظهر من بعض وتأثيرها في الفصاحة أوضح وأجلى ن غيره‏.‏

لكنا على كل حال لا نرضى بالقطع على إختيار الكلام العربي المؤلف والشهادة بحسنه وهو مخالف لما تلفظت به العرب وتواضعت عليه إن كان مواضعه وفيه وجه آخر من وجوه القبح عندهم‏.‏

ولا يكون حسناً حتى تنتفى عنه وجوه القبح في مثله على أننا نجد في تغير الكنايات وعدول الضمائر عن السبق في إيرادها ما يزيل شطراً من الفصاحة وطرفاً من الرونق ومن تأمل قول عبيد الله بن قيس الرقيات‏:‏ فتاتان أما منهما فشبيهة اله لال وأخرى منهما تشبه الشمسا فتانا بالنجم السعيد ولدتما ولم تلقيا يوماً هواناً ولا نحسا علم أن بين قوله‏:‏ ولدتما وولدتا فرقاً واضحاً ومزية بينة ووجد الكلام الثاني كالمنقطع من الأول وكذلك قول المتنبي‏:‏ قوم تفرست المنايا فيكم فرأت لكم في الحرب صبر كرام لأن وجه الكلام قوم تفرست المنايا فيهم فرأت لهم فهذا وما يجرى مجراه في جانب التأليف مذكور وفي شعبه معدود واتباع العرف في إيراد الظاهر المعروف دون الشاذ النادر واجب لمن آثر مشاركتهم في فصاحة النظم وسلامة النسج فإنما بهم يقتدي وعلى منارهم يهتدي ثم يقال لمن عساه يمنع أن يكون إعراب الكلام شرطا في فصاحته‏:‏ هل يجوز عندك أن يكون عربياً وأن استعمل كل اسم منه لغير ما وضعته له العرب فإن قال‏:‏ نعم لزمه أن يكون متكلماً باللغة العربية إذا سمى الفرس إنساناً والسواد بياضاً والموجود معدوماً وغير ذلك من الكلام وهذا حد لا يذهب إليه محصل وإن قال‏:‏ لا يكون عربياً حتى يضع كل اسم في موضعه ويلفظ به على حد ما يلفظ به أهله قلنا‏:‏ فقد دخل في هذا إعراب الكلام لأن معانيه تتعلق به وهو الدليل على المقصود منها وبه يزول اللبس والجواز فيها وإذا ثبت أنه لا يكون عربياً حتى يجرى على ما نطقت العرب به وجب أن يشترط في فصاحته تبعهم فيما تكلموا به ولا نجيز العدول عنه لأن كلامنا إنما هو في فصاحة اللغة العربية ومتى خرج الكلام عن كونه عربياً لم يتعلق قولنا به كما لا يتعلق بغيره من اللغات فقد بان أن اشتراطنا ما ذكرناه في الفصاحة صحيح لازم وتفصيل هذه الجملة يوجد في كتب النحو ولا يليق بكتابنا هذا ذكره لأنه علم مفرد وصناعة متميزة‏.‏

وأما السادس مما ذكرناه وهو أن تكون الكلمة قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره فللتأليف فيه تعلق بحسب إضافة الكلمة إلى غيرها فإن القبح يختلف بحسب ذلك كما قلنا في قول الشريف الرضى‏:‏ وقد خلت من جانبيك مقاعد العواد لأن مقاعد لما أضيف إلى العواد زاد قبح الكلام ولو قال قائل‏:‏ مقاعد الجبال على وجه الاستعارة أو غير ذلك لكان الأمر أسهل وأيسر فبهذا ونحوه يتعلق التأليف بهذا القسم‏.‏

وأما السابع وهو اجتناب الكلمة الكثيرة الحروف فلا علقة للتأليف بهذا إلا أن ظهور قبحه أجلى إذا ترادفت فيه الكلمات الطوال على حد ما قلناه في الكلمة الوحشية‏.‏

وأما الثامن وهو التصغير فلا علقة للتأليف به إذ كان لا يتعدى الكلمة بانفرادها لكني أقول أن تكرار التصغير والنداء والترخيم والنعت والعطف والتوكيد وغير ذلك من الأقسام - والاسهاب في إيرادها معدود في جملة التكرار ويجب التوسط فيه فإن لكل شئ حداً ومقداراً لا يحسن تجاوزه لا يحمد تعديه‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف تحمدون التصغير في الكلمة على ما قدمتموه فإذا انضاف إليه تصغير آخر قبح‏.‏

وكل واحد منهما حسن في نفسه قلنا‏:‏ إن التصغير المحمود معنى واحد وغير مختلف ولا متباين فنحن نكره تكراره كما نذم تكرار الكلمة الواحدة بعينها وإن كانت مرضية غير ذميمة والعلة في الجميع واحدة‏.‏

فهذا ما يتعلق بالأقسام المذكورة في الكلمة بانفرادها قد أوضحناه وبيناه‏.‏

ونعود إلى ما يختص بالتأليف وينفرد له‏.‏

ونقول‏:‏ إن أحد الأصول في حسنه وضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازاً لا ينكره الاستعمال ولا يبعد فيه وهذه الجملة تحتاج إلى تفصيل نحن نذكره ونشرحه ونبين أمثلته ليقع فهمه والعلم به‏.‏

فمن وضع الألفاظ موضعها أن لا يكون في الكلام تقديم وتأخير حتى يؤدي ذلك إلى فساد معناه وإعرابه في بعض المواضع أو سلوك الضرورات حتى يفصل فيه بين ما يقبح فصله في لغة العرب كالصلة والموصول وما أشبههما ولهذا أمثلة منها قول الفرزدق يمدح إبراهيم بن إسماعيل وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه ففي هذا البيت من التقديم والتأخير ما قد أحال معناه وأفسد إعرابه لأن مقصوده وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه - يعني هشاماً لأن أبا أمه أبو الممدوح ومن هذا أيضاً قول عروة بن الورد العبسى‏:‏ قلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عند ما وان رزح تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم إلى مستراح من حمام مبرح لأن تقديره‏:‏ قلت لقوم رزح في الكنيف عشية بتنا عند ما وان تروحوا تنالوا الغنى - ففصل بين الصفة والموصوف والأمر وجوابه‏.‏

فأما قول أبي الطيب‏:‏ المجد أخسر والمكارم صفقة من أن يعيش لها الهمام الأروع فجار هذا المجرى وفيه تقديم وتأخير وفصل بين الصلة والموصول وتقديره‏:‏ المجد والمكارم أخسر صفقة‏.‏

أما قول الفرزدق‏:‏ فليست خراسان التي كان خالد بها أسد إذ كان سيفاً أميرها فإن جماعة من النحويين قالوا‏:‏ أنه يمدح خالداً ويذم أسداً وكانا واليين بخراسان وخالد قبل أسد‏.‏

وتقدير البيت فليست خراسان بالبلدة التي كان خالد فيها سيفاً إذ كان أسد أميرها ويكون رفع أسد مكان الثانية وأميرهما نعت له وكان في معنى وقع أو يكون في كان ضمير الشان والقصة ويكون أسد وأميرها مبتدأ وخبراً في موضع خبر الضمير وقال أبو سعيد السيرافي‏:‏ إن تقدير البيت عنده أن يجعل أسداً بدلاً من خالد ويجعله هو خالد على سبيل التشبيه له بالأسد فكأنه قال فليست خراسان التي كان بها أسد إذ كان سيفاً أميرها ويجعل سيفاً خبراً لكان الثانية ويجعل أميرها الاسم‏.‏

وعلى التأويلين معاً فلا خفاء بقبح البيت والتعسف فيه ووضع الألفاظ في غير موضعها والفرزدق أكثر الشعراء استعمالاً لهذا الفن حتى كأنه يعتمده ويقصده ويعتقد حسنه‏.‏

ومن ذلك قوله أيضاً‏:‏ وترى عطية ضارباً بفنائه ربقين بين حظائر الأغنام متقلداً لأبيه كانت عنده أرباق صاحب ثلة وبهام يريد‏:‏ متقلداً أرباق ثلة وبهام كانت لأبيه عنده ومن التقديم والتأخير أيضاً قول الشاعر‏:‏ صددت فأطولت الصدود وقلما وصال على طول الصدود يدوم يري‏:‏ وقلما يدوم وصال على طول الصدود - وكذا قول الآخر‏:‏ لما رأت ساتيد ما استعبرت لله در اليوم من لامها أي لله در من لامها اليوم وعلى هذا قول المتنبي‏:‏ يريد‏:‏ جفخت وهم لا يجفخون بها‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه لأن تقدير‏:‏ وفاؤكما بان تسعدا كالربع أشجاه طاسمه ففصل وقدم وأخر وكذلك قول أبي عدى القرشي‏:‏ خير راعى رعية سره الله هشام وخير مأوى طريد أي خير راعى رعية هشام سره الله وقول الآخر‏:‏ لعمر أبيها لا تقول خليلتي ألافر عني مالك بن أبي كعب يريد‏:‏ لعمر أبي خليلتي‏.‏

ومن وضع الألفاظ موضعها أن لا يكون الكلام مقلوباً فيفسد المعنى ويصرفه عن وجهه ولذلك أمثلة مذكورة منها قول عروة بن الورد العبسي‏:‏ فلو أني شهدت أبا سعاد غداة غد لمهجته يفوق فديت بنفسه نفسي ومالي وما آلوك إلا ما أطيق يريد أن يقول‏:‏ فديت نفسه بنفسي‏.‏

ومنه قول خداش بن زهير‏:‏ وتركت خيل الهوادة بينها وتعصى الرماح بالضياطرة الحمر وأطلس عسال وما كان صاحباً رفعت لناري موهناً فأتاني وإنما النار هي المرفوعة للذئب ومن المقلوب أيضاً قول الآخر‏:‏ كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم وإنما الرجم فريضة الزناء وعلى هذا حمل أبو القاسم الآمدي قول الطائي الكبير‏:‏ طلل الجميع لقد عفوت حميدا وكفى على رزءى بذاك شهيدا قلل‏:‏ لأنه يقول مضى حميداً شاهداً على أني رزئت ووجه الكلام أن يكون‏:‏ وكفى برزءى شاهداً على أنه مضى حميداً لأن حميداً من الطلل قد مضى وليس بمشاهد معلوم وزرءه بما يظهر من تفجعه مشاهد معلوم فلأن يكون الحاضر شاهداً على الغائب أولى من أن يكون الغائب شاهداً على الحاضر‏.‏

وهذا الذي ذكره الشيخ أبو القاسم رحمه الله قول مثله من يتقدم الناس في هذا العلم ودقيق النظر فيه وكشف سرائره وقد حمل بعضهم قول أبي الطيب‏:‏ وعذلت أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق على المقلوب وتقديره عنده‏:‏ كيف لا يموت من يعشق‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن الكلام جار على طريقته والمراد به كيف تكون المنية غير العشق أي أن الأمر الذي يقدر في النفوس أنه في أعلى مراتب الشدة هو الموت ولما ذقت العشق فعرفت شدته عجبت كيف يكون هذا الأمر الصعب المتفق على شدته غير العشق وكيف يجوز أن لا تعم علته حتى تكون منايا الناس كلهم به - وكان هذا أشبه بمراد أبي الطيب من حمل الكلام على القلب فأما قول الله تعالى ‏"‏ ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة ‏"‏ ليس من هذا بشئ و إنما المراد والله أعلم أن المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من ثقلها وقد ذكر هذا الفراء وغيره وكذلك قوله عز اسمه ‏"‏ وإنه لحب الخير لشديد ‏"‏ ليس على ما يزعم بعضهم المراد به وأن حبه للخير لشديد بل المقصود به أنه لحب المال لبخيل - والشدة - البخل أي من حبه للمال يبخل فأما قول الحطيئة‏:‏ فلما خشيت الهون والعير ممسك على رغمه ما أمسك الحبل حافره فقد قيل فيه إن الحبل إذا أمسك الحافر فالحافر أيضاً قد شغل الحبل فعلى هذا ليس بمقلوب‏.‏

وكذلك قول أبي النجم‏:‏ قبل دنو الأفق من جوزائه لأن الجوزاء إذا دنت من الأفق فقد دنا منها‏.‏

وقد حمل أبو الفتح عثمان بن جنى قول أبي الطيب‏:‏ نحن ركب ملجن في زي ناس فوق طيرلها شخوص الجمال على المقلوب وقال تقديره‏:‏ نحن ركب من الأنس في زي الجن فوق جمال لها شخوص طير وهذا عندي تعسف من أبي الفتح لا تقود إليه ضرورة‏.‏

ومراد أبي الطيب المبالغة على حسب ما جرت به عادة الشعراء فيقول نحن قوم من الجن لجوبنا الفلاة والمهامه والقفار التي لا تسلك وقلة فرقنا فيها إلام أننا في زي الإنس - وهم على الحقيقة كذلك ونحن فوق طير من سرعة إبلنا إلا أن شخوصها شخوص الجمال ولا شك أيضاً في ذلك فأما قول قطري بن الفجاءة المازني‏:‏ ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب جذع البصيرة قارح الإقدام فقد حملوه على المقلوب‏.‏

وقالوا‏:‏ يريد قارح البصيرة جذع الإقدام‏.‏

كما يقال‏:‏ إقدام غرور أي مجرب وقد كان أبو العلاء صاعدين عيسى الكاتب جاراني في بعض الأيام هذا البيت وقال‏:‏ ما المانع من أن يكون مقصوده لم أصب أي لم ألف على هذه الحال بل وجدت على خلافها جذع الإقدام قارح البصيرة ويكون الكلام على جهته غير مقلوب وتمكن الدلالة على أن قوله‏:‏ لم أصب في البيت بمعنى لم ألف دون ما يقولون من أن مراده به لم أجرح قوله قبله‏:‏ لا يركنن أحد إلى الإحجام يوم الوغى متخوفاً لحمام فلقد أراني للرماح رديئة من عن يميني تارة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمى أكناف سرجى أو عنان لجامى فكيف يكون لم يصب وقد خضب هذا بدمه فأما قولهم إنه أراد من دمي أي من دم قومي وبني عمي فمبالغة منهم في التعسف والعدول عن وجه الكلام ليستمر لهم أن يكون فاسداً غير صحيح وهذا الذي ذكره أبو العلاء وسبق إليه له وجه يجب تقبله واتباعه فيه وفحوى كلام قطرى يدل على أنه أراد جرح ولم يمت إعلاماً أن الإقدام غير علة في الحمام وحثاً على الشجاعة ونيها عن الفرار‏.‏

ومن طريف التفسير للشعر أن يتأول ليقع الفساد فيه ولو حمل على ظاهره كان صواباً صحيحاً وما أعرف أعجب من حمل كافة المفسرين قول الفرزدق‏:‏ أن الذي سمك السماء بنا لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول على وجهين أحدهما أن يكون أعز وأطول بمعنى عزيزة طويلة والثاني أعز وأطول من بيتك يا جرير‏.‏

فيتعسفون في التأويل ومراد الشاعر أوضح من أن يخفى وأشهر من أن يجهل وهو أعز وأطول من السماء التي ذكرها في أول البيت وإنما جاء بها لهذا الغرض وهذا مبالغة في العشر معروفة مستعملة وليست بالمكروهة ولا الغريبة‏.‏

ومن وضع الألفاظ في موضعها حسن الاستعارة وقد حدها أبو الحسن على بن عيسى الرماني فقال‏:‏ هي تعليق العبارة على غير ما وضعت في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة وتفسير هذه الجملة أن قوله عز وجل واشتعل الرأس شيباً استعارة لأن الاشتعال للنار ولم يوضع في اصل اللغة للشيب فلما نقل إليه بان المعنى لما اكتسبه من التشبيه لأن الشيب لما كان يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئاً فشيئاً حتى يحيله إلى غير لو نه الأول كان بمنزلة النار التي تشتعل في الخشب وتسرى حتى تحيله إلى غير حاله المتقدمة فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان ولا بد من أن تكون أوضح من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها كانت أولى لأنها الأصل والاستعارة الفرع وليس يخفى على المتأمل أن قوله عز اسمه ‏"‏ واشتعل الرأس شيبا ‏"‏ أبلغ من كثير شيب الرأس وهو حقيقة هذا المعنى وقول امرئ القيس - قيد الأوابد - أبلغ من مانع الأوابد عن جريها والأصل في ذلك ما أفاده التشبيه إذا كان الأمر على ما ذكرتم قيل‏:‏ الفرق بينهما ما ذكره أبو الحسن وهو أن التشبيه على أصله لم يغير عنه في الاستعمال وليس كذلك الاستعارة لأن مخرج الاستعارة مخرج ليست العبارة له في أصل اللغة على أن الرماني قال في كلامه‏:‏ إن التشبيه في الكلام بأداة التشبيه وهو يعني كأن والكاف وما جرى مجراهما وليس يقع الفرق عندي بين التشبيه والاستعارة باداة التشبيه فقط لأن التشبيه قد يرد بغير الألفاظ الموضوعة له ويكون حسناً مختاراً ولا يعده أحد في جملة الاستعارة لخلوة من آلة التشبيه ومن هذا قول الشاعر‏:‏ سفرن بدوراً وانتقلن أهلة ومسن غصوناً والتفتن جاذراً وقول الآخر‏:‏ وكلاهما تشبيه محض وليس باستعارة وإن لم يكن فيهما لفظ من ألفاظ التشبيه وإنما الفرق بين الاستعارة والتشبيه ما حكيناه أولا ولا بد للإستعارة من حقيقة هي أصلها‏:‏ وهي مستعار ومستعار منه ومستعار له‏.‏

فالمستعار لفظ الاشتعال فيما مثلنا به والنار مستعار منه والشيب مستعار له‏.‏

ولها تأثير في الفصاحة ظاهر وعلقة وكيدة‏.‏

والبعيد منها يقضي باطراح الكلام ويذهب طلاوته ورونقه ولأجل هذا احتاج إلى إيضاحها ووصف ما يحسن منها ويقبح والإكثار من الأمثلة التي تدل على ما أريده وهي على ضربين قريب مختار وبعيد مطرح‏.‏

فالقريب المختار ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوى وشبه واضح والبعيد المطرح إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل أو لأجل أنه استعارة مبنية على استعارة فتضعف لذلك والقسمان معا يشملهما وصفي بالبعد لكن هذا التفصيل يوضح وإذا ذكرت الأمثلة بان القريب في الاستعارة من البعيد وعرف المرضى منها والمكروه وتنزلت الوسائط بينهما بحسب النسبة إلى الطرفين‏.‏

وهذا الفن قد أورده المحدثون كثيراً وإن كان المتقدمون بدؤا به وممن أكثر استعماله أبو تمام حبيب بن أوس فأورده منه في شعره الجيد المحمود والردئ الذي هو الغاية في القبح‏.‏

سأذكر في شعره خاصة ما يستدل به على ذلك‏.‏

وقد خرج على بن عيسى ما ورد في القرآن من الاستعارة فكان من ذلك قوله تعالى ‏"‏ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً ‏"‏‏.‏

لأن حقيقته عمدنا لكن قدمنا أبلغ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم يقدم من سفر لأنه من اجل إمهاله لهم عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم به وفي هذا تحذير من الاغترار بالاهمال‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ‏"‏‏.‏

لأن حقيقة طغي علا والاستعارة أبلغ لأن طغى علا قاهراً‏.‏

وكذلك‏:‏ ‏"‏ بريح صرصر عاتية ‏"‏‏.‏

لأن حقيقة عاتية شديدة والعتو أبلغ لأنه شدة فيها ثمرد‏.‏

وقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ‏"‏ لأن انسلاخ الشئ عن الشئ هو أن يتبرأ منه ويزول عنه حالا فحالا وكذلك انفصال النهار عن الليل والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ والصبح إذا تنفس ‏"‏ لأن تنفسها هنا مستعار وحقيقته بدأ انتشاره وتنفس أبلغ لما فيه من الترويح عن النفس وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تجعل يدل مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ‏"‏ وحقيقته لا تمنع نالك كل المنع‏.‏

والاستعارة أبلغ لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليد إلى العنق وحال المغلول أظهر‏.‏

وأمثال هذا في كتاب الله كثيرة وهو جار على عادة العرب المعروفة في الاستعارة ومنه قول طفيل الغنوي‏:‏ وجعلت كورى فوق ناجية يقتات شحم سنامها الرحل فإن اشتعارة هذا البيت مرضية عند جماعة العلماء بالشعر لأن الشحم لما كان من الأشياء التي تقتات وكان الرحل يتخونه ويذيبه كان ذلك بمنزلة من يقتاته وحسنت استعارته القوت للقرب والمناسبة والشبه الواضح‏.‏

وكذلك قول ذي الرمة في إحدى الروايات‏:‏ أقامت به حتى ذوى العود والثرى ولف الثريا في ملاءته الفجر لأن الفجر لما غطى الليل ببياضه وشمل الأرض عند طلوعه حسنت استعارة الملاءة له لتضمنها هذا المعنى وعب بطلوع الثريا وقت طلوع الفجر بأنه لفها في ملاءته وتلك أحسن عبارة وأوضح استعارة‏.‏

وقد اختار أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي الكاتب من جملة الاستعارة قول امرئ القيس‏:‏ فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل وقال‏:‏ إن هذه الاستعارة في غاية الحسن والجودة والصحة لأنه إنما قصد وصف أحوال الليل الطويل فذكر امتداد وسطه وتثاقل صدره للذهاب والانبعاث وترداف أعجازه وأواخره شيئاً فشيئاً قال‏:‏ وهذا عندي منتظم لجميع نعوت الليل الطويل على هيئته وذلك أشد ما يكون على من يراعيه ويترقب تصرمه فلما جعل له وسطاً يمتد وأعجازاً رادفة للوسط استعار له اسم الصلب وجعله متمطياً من أجل امتداده لأن قولهم تمطى وتمدد بمنزلة واحدة وصلح أن يستعير للصدر اسم الكلكل من أجل نهوضه وهذه أقرب الاستعارات من الحقيقة لملاءمة معناها لمعنى ما استعيرت له‏.‏

وهذا الذي قاله أبو القاسم لا أرضى به غاية الرضى ولو كنت أسكن إلى تقليد أحد من العلماء بهذه الصناعة أو أجنح إلى اتباع مذهبه من غير نظر وتأمل لم أعدل عما يقوله أبو القاسم لصحة فكره وسلامة نظره وصفاء ذهنة وسعة علمه لكنني أغلب الحق عليه ولا اتبع الهوى فيما يذهب إليه‏.‏

وبيت امرئ القيس عندي ليس من جيد الاستعارة ولا رديئها بل هو من الوسط بينهما وبيتاً الغنوي وذي الرمة أحمد في الاستعارة وأشبه بالمذهب الصحيح منها وإنما قلت ذلك لأن أبا القاسم قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل الليل وسطاً وعجزاً استعار له اسم الصلب وجعله متميطاً من أجل امتداده وذكر الكلكل من أجل منهوضه فكل هذا إنما يحسن بعضه لأجل بعض فذكر الصلب إنما حسن لأجل العجز والوسط والتمطى لأجل الصلب والكلكل لمجموع ذلك‏.‏

وهذه الاستعارة المبنية على غيرها فلذلك لم أر أن أجعلها من أبلغ الاستعارات وأجدرها بالحمد والوصف وكانت استعارة طفيل وذي الرمة عندي أوفق وأصح لأنها غنية بنفسها غير مفتقرة إلى مقدمة جلبتها‏.‏

وقد اختار الآمدي أيضاً قول زهير‏:‏ وقالك لما كان من شأن ذي الصبا أن يوصف أبداً بأن يقال ركب هواه وجرى في ميدانه وجمح في عنانه ونحو هذا حسن أن يستعار للصبا اسم الأفراس وأن يجعل النزوع عنه بأن تعرى أفراسه ورواحله وكانت هذه الاستعارة من اليق شئ بما استعيرت له‏.‏

وعندي أن الاستعارة في بيت طفيل أليق منها في هذا البيت والعلة ما ذكرته في بيت امرئ القيس وذلك أن الاستعارة في بيت زهير مبنية على قولهم ركب هواه وجرى في ميدانه على محو ما قاله أبو القاسم وتلك استعارة بغير شك وقد بنى عليها‏.‏

وبيت طفيل أقرب وأحسن لغناه بنفسه وقد كنت مثلت في بعض المواضع الاستعارة المحمودة والمذمومة ببيتين أحدهما قول أبى نصر بن نباتة‏:‏ حتى إذا بهر الأباطح والربا نظرت إليك بأعين النوار ليت شعر فنظر أعين النوار من أشبه الاستعارات وألقها لأن النوار يشبه العيون وإذا كان مقابلاً لم يجتر فيه ويمر به كان كأنه ناظر إليه وهذه الاستعارة الصحيحة الواضحة التشبيه‏.‏

والبيت الثاني قول أبي تمام‏:‏ قرت بقران عين الدين وانتشرت بالأشترين عيون الشرك فاصطلما وقرة عين الدين وانشتار عيون الشرك من أقبح الاستعارات لعدم الوجه الذي لأجله جعل للدين والشرك عيوناً ومع تأمل هذين البيتين يفهم معنى الاستعارة لأن النوار والشرك لا عيون لهما على الحقيقة وقد قبحت استعارة العيون لأحدهما وحسنت للآخر وبيان العلة فيه أن النوار يشبه العيون والدين والشرك ليس فيهما ما يشبهها ولا يقاربها وهذه طريقة متى سلكت ظهر المحمود في هذا الباب من المذموم‏.‏

وأما قول الشريف الرضى‏:‏ والحب داء يضمحل كأنما ترغو رواحله بغير لغام فقريب من قول زهير - أفراس الصبا ورواحله - لكنه أبعد منه لأنه بنى عليه أمراً آخر غير قريب وهو قوله‏:‏ إن رواحل الصبا ترغو ولا لغام لها‏.‏

وهذا المذهب الردئ في الاستعارة على ما قدمناه وقد أعاد أبو نصر بن نباتة قوله نظرت إليك بأعين النوار - في موضع آخر فقال‏:‏ إذا نظرت أرض الخليج بأعين من النور قامت للصوارم سوق وكلاهما واحد فأما قول الرضى‏:‏ رسا النسيم بواديكم ولا برحت حوامل المزن في أجداثكم تصنع ولا يزال جنين النبت ترصعه على قبوركم العراصة الهمع من أحسن الاستعارات وألقيها لأن المزن تحمل الماء وإذا هملت وضعته فاستعارة الحمل لها والوضع المعروفين من أقرب شئ وأشبهه وكذلك قوله جنين النبت - لأن الجنين المستور مأخوذ من الجنة وإذا كان النبت مستوراً والغيث يسقيه كان ذلك بمنزلة الرضاع وكانت هذه وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع فليس من أحسن الاستعارات ولا أقبحها ولا أراه نظير ما اخترته من قول طفيل وذي الرمة وابن نباتة والشريف الرضى‏.‏

ولا الأمثلة البعيدة التي ذكرتها بل هو وسط وإن كان إلى الاختيار أقرب لما جرت به العادة من قولهم‏:‏ علقت به المنية ونشبت وما أشبه ذلك ولأجل كثرة هذا حسن‏.‏

ولأنه مبنى على غيره لم اجعله من أبلغ الاستعارات على ما قدمت ذكره‏.‏

وأما قول أبي تمام‏:‏ أيامنا مصقولة أطرافها بك والليالي كلها أسحار فمن الاستعارة المختارة لأنه لما أراد الأيام المحمودة الصافية من الكدر والقذى جعلها مصقولة على وجه الاستعارة وهذا تشبيه ظاهر‏.‏

وأما قوله‏:‏ يا دهر قوم من أخدعيك فقد أضججت هذا الأنام من فرقك وقوله‏:‏ فضربت الشتاء في أخدعيه ضربة غادرته عوداً ركوبا وقوله‏:‏ سأشكر فرجة اللب الرخى ولين أخادع الدهر الأبي فإن أخادع الدهر والشتاء من أقبح الاستعارات وأبعدها مما استعيرت له وليس بقبح ذلك خفاء‏.‏

ولا يعرف أبو تمام الوجه الذي لأجله جعل للشتاء والدهر أخادع إلا سوء التوفيق في بعض المواضع‏.‏

وأما قول أبي الطيب‏:‏ مسرة في قلوب الطيب مفرقها وحسرة في قلوب البيض واليلب فمن أبعد ما يكون في هذا الباب ولا عذر يتوجه له في الاستعارة للطيب والبيض واليلب قلوباً تسر وتتحسر‏.‏

وذكر القاضي أبوالحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصمه‏:‏ أن بعض أصحابه جاراه أبياتاً أبعد أبو الطيب فيها الاستعارة وخرج عن حد الاستعمال والعادة وكان منها هذا البيت الذي ذكرناه وقوله أيضاً‏:‏ تجمعت في فؤاده همم ملئ فؤاد الزمان إحداها قال فقلت له‏:‏ هذا ابن أحمر يقول‏:‏ ولهت عليه كل معصفة هو جاء ليس للبها زبر فما الفصل بين من جعل للريح لباً ومن جعل للبيض واليلب قلوباً وهذا الكميت يقول‏:‏ ولما رأيت الدهر يقلب ظهره على بطنه فعل الممعك بالرمل هم ساعد الدهر الذي يتقى به وما خير كف لا تنوء بساعد وذكر أبياتاً من هذا النحو ثم قال‏:‏ فكيف أنكرت على أبي الطيب أن جعل له فؤاداً قال فلم يحرجوا أبا غير أن قال إذا استبرأت نفسي وجدت بين استعارة ابن أحمر للريح لباً واستعارة أبي الطيب للطيب قلوباً بوناً بعيداً وربما قصر اللسان عن مجاراة الخاطر ولم يبلغ الكلام مبلغ الهاجس ثم قال القاضي أبو الحسن وقد أجد لهذا الفصل الذي تحمل له بعض البيان وذلك أن الريح لما خرجت بعصوفها عن الاستقامة وزالت عن الترتيب شبهت بالأهوج الذي لا مسكة في عقله ولا زبر للبه ولما كان مدار الهوج في الالتياث على العقل حسن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلاً فأما الدهر فإنما يراد بذكره أهله فإذا جعل الممدوح للدهر ساعداً فقد أقيم لأهله مقام هذه الجوارح من الإنسان وليس للطيب والبيض واليلب ما يشبه القلب ولا ما يجرى مع هذه الاستعارة في طريق ثم قال ابن عبد العزيز‏:‏ وإنما يحمل ما جاء من ألفاظ المحدثين وكلام المولدين زائلاً عن السنن على وجوه تقربهم من الاصابة وتقيم لهم بعض العذر وتلك الوجوه تختلف بحسب اختلاف مواضعه وتتباين على قدر تباين المعاني المتضمنة له‏.‏

ولهذا قال أبو الطيب - مسرة في قلوب الطيب مفرقها - فإنما يريد أن مباشرة مفرقها شرف ومجاورته له زين ومفخر وأن التحاسد يقع فيه والحسرة تعظم عليه‏.‏

فلو كان الطيب ذا قلب لسر كما لو كانت البيض ذوات قلوب لأسفت وإذا جعل للزمان فؤاداً ملأته هذه الهمة فإنما أورده على مقابلة اللفظ باللفظ فلما افتتح البيت بقوله‏:‏ تجمعت في فؤاده همم - ثم أراد أن يقول إحداهما تشغل الزمان وأهله ترخص بأن جعل له فؤاداً وأعانه على ذلك أن الهمة لا تحل إلا الفؤاد وسهله ما تقدم من تسامح الشعراء في نعوت الدهر وتوسعهم في استعارة الأوصاف له‏.‏

وإذا قال أبو تمام‏:‏ يا دهر قوم من أخدعيك - فإنما يريد أعدل ولا تجر وانصف ولا تحف لكنه لما رآهم قد استجازوا أن ينسبوا إليه الجور والميل وأن يقذفوه بالعسف والظلم وبالخرق والعنف وقالوا قد اعرض عنا وأقبل على فلان وقد جفانا وواصل غيرنا‏.‏

وكان الميل والأعراض إنما يكون بانحراف الأخدع وازورار المنكب واستحسن أن يجعل له اخدعاً وأن يأمره بتقويمه وهذه أمور متى حملت على التحقيق وطلب منها محض التقويم أخرجت عن طريقة الشعر ومتى اتبع فيها الرخص وأجريت على المسامحة أدت إلى فساد اللغة واختلاط الكلام وإنما القصد فيها التوسط والاجتزاء بما قرب وعرف والاقتصار على ما ظهر ووضح وهذه حكاية كلام القاضي أبي الحسن‏.‏

ونحن نذكر ما عندنا في كل فصل منه والانتفاع به في الاستعارة ظاهر‏.‏

أما الذي أنكر على أبي الطيب استعارته هذه فلم يضع يده إلا على ما تشهد الافهام له وتقطع العقول على صحته وأما اعتذار القاضي له بالأبيات التي ذكرها فغن كان قصد بذلك التنبيه على أن أبا الطيب غير مبتدع لهذا الزلل والمخترع بل هو مشارك فيه مماثل به وقد تقدمه من سلك هذا الطريق ونحا هذا النحو فإن وجب اطراح شعر أبي الطيب لهذا السبب وجب اطراح الأشعار كلها لأن العلة واحدة فعلى هذا الوجه الكلام في موضعه وإن كان القصد بذلك إقامة العذر للمتنبي وترك الانكار عليه إذ كان النهج الذي سلك فيه مطروقاً فليس هذا الرأي من معتقده بصواب لأن القول في استعارة أبي الطيب إذا كانت بعيدة غير مرضية كالقول في كل استعارة كذلك سواء كانت لمتقدم أو لمتأخر وليس يتميز قبحها بإضافتها إلى رجل من الرجال ولا زمان من الأزمنة وإنما هذا شئ يقع للعامة وأشباههم من أغمار الأدبار فيتخيلون أن للحسن ولقبح حكما يرجع إلى التاريخ ويتعلق بالإضافة ولا بد لنا من الكلام على هذا المذهب الفاسد فيما يأتي من هذا الكتاب في موضع مفرد يليق به وإن كانت الشبهة لا تعترض فيه لمحصل‏.‏

ومن لم يعلم الصواب فيه ابتداء من نفسه فأجدر به ألا يعرف مواقع الأدلة عليه والحجج فيه لكنا نذكره هناك عل كل حال مستوفى مستقصى‏.‏

فعلى ما قلناه ليس قول ابن احمر حجة لأبي الطيب لأنا نقول لهما جميعاً أخطأتما منهج الاستعارة وعدلتما عن الغرض المختار فيها‏.‏

وأما قول القاضي‏:‏ إن الفصل الذي يتخيل بين استعارة أبي الطيب للطيب قلوباً واستعارة ابن أحمر للريح لباً إنما هو أن الريح لما خرجت بعصوفها عن الاستقامة شبهت بالأهوج الذي لا مسكة في عقله ثم لما كان مدار الأهوج على الالتياث في العقل حسن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلاً‏.‏

فلعمري أن الأمر على ما ذكره وقد سهل بيت ابن أحمر بهذا التخريج الذي جرت به العادة وإن لم يكن حسناً ولا محموداً لكنه أصلح من قلوب الطيب لأن تلك الاستعارة لا وجه لها من عادة ولا غيرها وكذلك ما قاله في ساعد الدهر لأنه تأويل لا يستمر لأبي الطيب مثله‏.‏

فأما قوله‏:‏ إنما يحمل ما جاء من ألفاظ المحدثين وكلام المولدين وزائلاً عن السنن على وجوه تقربهم من الاصابة وتقيم لهم بعض العذر فكأنه بهذا القول يخص المحدثين من المتقدمين وليس بينهم من هذا الوجه فرق وكما يلتمس من المتأخر الحسن الصحيح كذلك يلتمس من المتقدم‏.‏

ومن عدل منهما كان التأويل له واحداً بحيث يمكن ولا يبعد ولم يقع بينهما تميز فيما يوجبه النظر ويتقدمه الفحص وما أحسب أن أحداً ممن ينتسب إلى العلم ويتميز بصحة الفهم يحتاج في اختيار الاستعارة إلى معرفة صاحبها وزمانه حتى يكون حكمه على من تقدم مولده يخالف حكمه على من قرب عهده فلعل من يجدنا نستدل بكلام العرب المتقدمين على لغتهم لا نستدل بكلام المتأخرين يتحيل أن هذا شئ يرجع إلى الزمان وليس الأمر كذلك وإنما العرب الأول لما كثر الاسلام واتصلت الدعوة وانتشرت حضر أكثرهم وسكنوا الأرياف وفارقوا البدو وخالطهم الباقي فامتزج كلامهم بمن جاوروه من الأنباط وعاشروه من الأعاجم وعدم منهم الطبع السليم الذي كانوا عليه قبل هذه المخالطة فهم الآن لا يحتج بكلامهم لهذه العلة لا لأن القدم والحدوث سببان في الصواب والخطأ ولهذا كان الأصمعي ينكر أن يقال في لغة العرب مالح فلما أنشد في ذلك شعر ذي الرمة‏.‏

قال‏:‏ إن ذا الرمة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زماناً‏.‏

فأراد بذلك أن بمخالطتهم سمعهم يقولون مالح فقاله فلم يجز أن يحتج بكلامه لهذا السبب ولو فرضنا اليوم أن في بعض الصحارى النائية عن العمارة قوماً على عادة المتقدمين في البدو وترك الإلمام بأهل المدر متمسكين بطبعهم وجارين على سجيتهم كان على هذا الفرض قولهم حجة واتباعهم واجباً ولهذه العلة تختلف العرب في كلامهم بحسب تباينهم في المخالطة‏.‏

فنجد اليوم من بعد منهم عن الحضر أكثر من غيره إلى الصواب أميل ومن جانبه أقرب‏.‏

وأما قوله‏:‏ إن أبا الطيب يريد أن مباشرة مفرقها شرف ومجاورته زين ومفخر وأن التحاسد يقع فيه والحسرة تعظم عليه فلو كان الطيب ذا قلب لسر كما لو كانت البيض ذوات قلوب لأسفت فلم يزد على أن فسر مراد أبي الطيب بقوله‏:‏ إن الطيب يسر بمفرق هذه المرأة والبيض تتحسر‏.‏

والمعنى ظاهر فيه لا خفاء به‏.‏

وقوله‏:‏ إن مراده لو كان الطيب ذا قلب لسر ليس بعذر في قوله قلوب الطيب لأن بين قوله‏:‏ لو كان للطيب قلب وبين قوله للطيب قلب فرقاً ظاهراً لا يخفى على أحد لأن أحدهما قد جعله واجباً والآخر ممتنعاً ليس فيه أكثر من الفرض الذي يعلم من فحوى اللفظ انه لم يقع وليس يخفى على متأمل أن بين قول البحتري‏:‏ فلو أن مشتاقاً تكلف غير ما في طبعه لمشى إليه المنبر وبينه لو كان قال‏:‏ إن المنبر مشى إليك ميزة بينة ظاهرة‏.‏

وهذا أمر لا يستمر في مثله شبهة فيحتاج إلى الإسهاب في إيضاحه‏.‏

وأما قوله‏:‏ إنه جعل للزمان فؤاداً ملأته هذه الهمة على مقابلة اللفظ باللفظ لما افتتح البيت بقوله‏:‏ تجمعت في فؤاده همم - فليس بمعتمد لأن مقابلة اللفظ باللفظ على ما أراده مجاز والمجاز لا يقاس عليه وليس يحسن بنا أن نقابل اللفظ باللفظ في كل موضع من الكلام قياساً على مقابلة اللفظ باللفظ في قوله تعالى ‏"‏ وجزاء سيئة سيئة مثلها ‏"‏ كما لا يجوز منا أن نحذف المضاف ونقيم المضاف إليه مقامه أبداً اتباعاً لقوله عز اسمه ‏"‏ واسأل القرية التي كنا فيها ‏"‏ والمراد أهل القرية حتى نقول ضربت زيداً ونريد غلام زيد والعلة في الجميع واحدة وهو أن المجاز لا يقاس عليه وإنما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه في موضع دون موضع بحسب ما يتفق من فهم المقصود وزوال اللبس والأشكال وكذلك نقابل بعض الكلام ببعض بحيث لا يعرض فيه فساد في المعنى ولا خلل في العبارة فإذا اعترضنا في المقابلة مثل هذه الاستعارة لم نجزها كما إذا تطرق إلينا في حذف المضاف وجود اللبس لم نركن إليه ولا نعرج عليه‏.‏

وأما قوله‏:‏ إنه أراد أن يقول أحداها تشغل الزمان وأهله فترخص بأن جعل له فؤاد وأعانه على ذلك أن الهمة لا تحل إلا الفؤاد وسهلة ما تقدم من تسامح الشعراء في نعوت الدهر وتوسعهم في استعارة الأوصاف فليس هذا القول بحجة لأن الشعراء إذا تسمحوا وأبعدوا في الاستعارة نسبوا إلى ما نسب إليه أو الطيب من الخطأ والعدول عن الوجه في الكلام وليس يعذر لهم كما لا يحتج لهم به وكلهم في هذا الباب شرع واحد‏.‏

وقوله فيما بعد‏:‏ إن أبا تمام قال - يا دهر قوم من اخدعيك - لما رآهم قد استجازوا أن ينسبوا إليه الجور والميل وقالوا قد أعرص عنا وأقبل على فلان وجفانا والميل والأعراض إنما يكون بانحراف الأخدع وأزورار المنكب كلام لا يغنى عن أبي تمام شيئاً لأنا قد ذكرنا أن الاستعارة إذا بنيت على استعارة قبحت وبعدت والواجب أن تكون لها حقيقة ترجع إليها بلا واسطة وإذا كان الأمر على هذا وكان قولهم عن الدهر قد أعرض عنا وأقبل على فلان استعارة ومجازا بغير شك ولم يحسن أن يجريه مجرى الحقيقة ونبنى عليه أمرا بعيدا حتى نجعل للدهر أخدعا لأجل قولهم إنه قد عرض عنا وانحرف‏.‏

ويقال للقاضي أبي الحسن‏:‏ هل تجيز‏:‏ هي تجيز لبعض المحدثين أن يبنى استعارة أخرى على الأخدع في الدهر لأن أبا تمام قد استعمل ذلك ويبنى غيره على قول هذا المحدث استعارة أخرى بعيدة ويؤول هذا إلى ما لا نهاية له حتى يفسد الكلام وتختل العبارة ويذهب التمييز في الوجوه المحمودة والذميمة فإن أجاز ذلك بأن فساد قوله لكافة العقلاء وأن امتنع منه وقال لا بد للاستعارة من حقيقة يرجع إليها ويكون بينهما شبه ظاهر وتعلق وكيد قيل له‏:‏ فبهذا نخاطبك وله قطعنا على قبح استعارة أبي تمام للدهر أخدعا فاعرض الآن عن هذا التعليل منك بالباطل جانبا فإنه غير لائق بك وبمن يجرى مجراك من أهل العلم بهذه الصناعة ثم ما الفرق بينك فيما ذكرته وبين من عذر القائل‏:‏ باض الهوى في فؤادي وفرخ التذكار وقال لما كانت العادة جارية في الهوى أن يقال حل في الفؤاد وأقام وليس بزائل ولا ذاهب وكان الطائر ذو البيض أو الفراخ شديد المقام على وكره والألف له والحنين إليه ترخص بان استعار للهوى باض وللتذكار فرخ كناية عن مقامهما وثباتهما في فؤاد وتشبيهاً بما ذكرناه من حال الطائر فإن ادعى صحة هذا التخريج وألحقه بما ذكره في بيت أبي تمام وجب الأمساك عنه وإن أفصح بخلافة للعلة التي بيناها فهي موجودة في الأبيات التي ذكرها على أنه قال في آخر كلامه‏:‏ إن هذه أمور لا تحمل على التحقيق ولا يتبع فيها الرخص ثم حملها على أشد الرخص إحالة وفساداً‏.‏

ومن التوسط الذي حمده وأشار إليه أن لا يتعدى في الاستعارة حدها ولا يعدل بها عن منهجها‏.‏

فأما قول أبي الطيب‏:‏ وقد ذقت حلواء البنين على الصبا فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل فقد كان الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن عباد أنكره على أبي الطيب وذكره في جملة المساوى من شعره والأمر فيه على ما قاله وهو من ردئ الاستعارة وأرى أن الزائد في قبحه قوله حلواء لأن المستعمل في هذا الفن حلاوة وتلك اللغة في العرف مفردة لأمر آخر حقيقي هي غير مستعارة فيه‏.‏

وأما قول أبي تمام‏:‏ وكم أحرزت منكم على قبح قدها صروف النوى من مرهف حسن القد فإن استعارة القد لصروف النوى من أبعد ما يقع في هذا الباب وأقبحه وإنما يقود أبا تمام إلى هذا وأمثاله رغبته في الصنعة حتى كأنه يعتقد أن الحسن في الشعر مقصور عليها فيورد منه لأجل التكليف ما لا غاية لقبحه ويسعده الخاطر في بعض المواضع فيأتي بالعجائب الغرائب ومن مختار الاستعارة قول الشريف الرضى‏:‏ من البيض لولا بردها قلت دمعة مرنقة ما أسلمتها المدامع لأنه استعار لأعلى الجبل الأمن عبارة عن الارتفاع وتعذر الوصول إليه وهذا لائق محمود في الصناعة ومعلوم عند أهلها وما زلت أسمع أبا العلاء يقول‏:‏ إن من الشعر ما يصل إلى غاية لا يمكن تجاوزها وهذا البيت عندي من ذلك القبيل حسناً وصحة نسج وعذوبة لفظ وللسرى الموصلى أبيات مرضية في معناها وهي‏:‏ أقول لحنان العشى مغرد يهز صفيح البارق المتوقد تبسم عن ري البلاد حبيه ولم يبتسم إلا لإيجاز موعد ثم بعدها أبيات وياديرها الشرقي لا زال رائحاً يحل عقود المزن فيك ويغتدى عليلة أنفاس الرياح كأنما يعل بماء الورد نرجسها الندى يشق جيوب الورد في شجراته نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد وفي هذه الأبيات استعارات عدة كل منها مختار‏:‏ أما حنان العشي مغرد فمعروف والعادة جارية باستعارة الحنين والتغريد‏:‏ للغيث لأن له صوتاً على كل حال‏.‏

وكذلك صفيح البارق وأشبه شئ بالبرق لمع السيوف والتبسم فيه أيضاً ظاهر لضوء برقه في خلاله وعقود المزن لائقة لتشبيه القطرات من الماء والدمع بالعقد إذا وهي من سلكه وأنفاس الرياح تكاد تكون حقيقة لوضوحه واستعمال العلة فيها كناية عن الضعف والخفوت وقلة الحركة على وجه التشبيه بالمريض وجيوب الورد مختار لأن النسيم إذا أظهره من أكمامه ونشره عن طيه بعد ذلك كان بمنزلة الجيوب التي تشق وعبارته عن سرعة برد الماء بالنسيم إنه متى نظر إليه برد مرضية لأن النظر ليس هو الرؤية وإنما هو ضرب من المقابلة والمواجهة تقع الرؤية بعده ومثل هذا في النسيم موجود ولائق غير بعيد‏.‏

وأنا أختار أيضاً قول الأمير أبي الحسن على بن مقلد بن منقذ‏:‏ لا يحفظون سوى أسمال زادهم ولا يضيعون إلا حرمة الجار لأن الأسمال الأخلاق وإذا استعيرت لبقية الزاد وفضلته كانت من أحسن شئ وأليقه وأقربه إلى الحقيقة والجامع بينهما أن كلا منهما غبر وعقابيل قد أنهجت جدته وذهب أكثره وهو معرض للنبذ وهو منسوب إلى الاطراح والرفض وهذه وجوه ظاهرة تحمل الاستعارة عليها‏.‏

وأما قول أبي عبادة البحتري‏:‏ وكنت إذا استبطأت ودك زرته بتفويف شعر كالرداء المحبر عتاب بأطراف القوافي كأنه طعان بأطراف القنا المتكسر فلعمري أن هذه المقابلة الصحيحة لأن للقوافي طرفاً بلا شك وأولاً ووسطا وآخراً فإن كان أبو عبادة لا يريد طرف القافية الحقيقي وإنما مقصوده أنى ألوح بالعتاب في القصائد ولا أصرح به فهو يفهم من معاريضها وملاحنها وحيا وعلى وجه الإيماء والاشارة وهي غير مقصورة عليه ولا مفردة لذكره فبهذا أيضاً جرت العادة في استعمال الطرف‏.‏

وإذا قال القائل تلوحت من أطراف كلام فلان كذا وكذا فإنما هذا المعنى يريد وله يعنى والبحتري على كل حال محسن‏:‏ وأما تفويف شعر فإن النظم إذا كان نسجاً وصف بالصقال والرقة وكثرة الماء والهلهلة والمتانة وغير ذلك مما يستعمل في الثياب المنسوجة من النعوت المحمودة والمذمومة كان التفويف فيه جاريا هذا المجرى ومعدودا من هذا القبيل‏.‏

وأما قول الرضى‏:‏ ملك سماحتي تحلق في العلا وأذل عرنين الزمان السامى فليس عرنين الزمان من الاستعارة الجيدة وإنما بناه على ذكر الأنف الحقيقي عند وصف صاحبه بالذل وقد وردت استعارة الأنف في مثل هذا الموضع وكلاهما قبيح قال تأبط شراً‏:‏ نحز رقابهم حتى صدعنا وأنف الموت منخره رثيم فجعل للموت أنفا ومنخر رثيما من قولهم‏:‏ - رثمت أنف الرجل فهو رثيم - إذا ضربته فدمى‏.‏

وقال ذو الرمة‏:‏ يعز ضعاف القوم عزة نفسه ويقطع أنف الكبرياء الكبر فاستعار للكبرياء أنفا أو لعله أراد أنف صاحب الكبرياء وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه‏.‏

وقال معقل بن خويلد الهذلي‏:‏ تخاصم قوماً لا تلقى جوابهم وقد أخذت من أنف لحيتك اليد يريد قبضت على طرف لحيتك كما يفعل المهموم فجعل للحية أنفاً‏:‏ وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان فيما قرأته عليه‏:‏ إذا ذن أنف البرد سرتم فليته عقيب التنائي كان عوقب بالجدع وقال أيضاً‏:‏ للطيب في منزلها سورة مناخر البدر بها يفغم فاستعار للبرد أنفاً وللبدر مناخر‏.‏

وقال سلم الخاسر‏:‏ لولا المقادير ما حط الزمان به لكن تولى بأنف كلمه دام فجعل للزمان أنفاً دامياً‏.‏

وقال الحسين بن مطير‏:‏ فلما مضى معن مضى الجود وانقضى وأصبح عرنين المكارم أجدعا وكل هذا من الاستعارة البعيدة الذميمة وقد حمل بعض المفسرين قول ذي الرمة‏:‏ أنف الكبرياء - على أنه أراد أوله والمقدم منه كما قال امرؤ القيس‏:‏ أي في أول جرية أو في أول الغيث الذي ذكره قبل هذا البيت وهذا التأويل على بعده ليس يسوغ في جميع الأبيات المذكورة لأن المعنى فيها مبنى على الأنف الذي هو العضو ومن الاستعارة المحمودة التي كأنها حقيقة قول شيخنا أبي العلاء‏:‏ وكأن حبك قال حظك في السرى فالطم بأيدي العيسى وجه السبسب وهذا من قربه لو قيل إنه حقيقي غير مستعار جاز ذلك وإن كان على محض الاستعارة أحسن وأحمد فأما قوله‏:‏ ولما ضربنا قونس الليل من عل تفرى بنضخ الزعفران أو الردع فإن قونس الليل ليس بمرضى على أن ذا الرمة قد أتى بمثله في قوله‏:‏ تيممن يا فوخ الدجى فصدعنه وجوز الفلا صدع السيوف القواطع وإن كان يا فوخ الدجى أقبح وأشنع لكن هذا عندنا ليس بعذر وما يتوجه على أحدهما إلا ما يتوجه على الآخر‏.‏

وما زال العلماء بالشعر ينكرون هذه الاستعارة على ذي الرمة ويعتدونها من اساآته وقد تجاوز الشريف الرضى في بعض المواضع ذكر الرأس لليل إلى أن جعل له مخاً وعظماً فقال‏:‏ ليالي أسرى في أصيحاب لذة ومخ الدجى رار وقد دق عظمه لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماس بكائي ويحكون الحكاية المعروفة عن سائل سأل أبا تمام أن ينفذ له في إناء شيئاً من ماء الملام وربما نسبها بعض الرواة إلى عبد الصمد بن المعذل‏.‏

وقد تصرف أصحاب أبي تمام في التأويل له فقال بعضهم إن أبا تمام أبكاه الملام وهو يبكى على الحقيقة فتلك الدموع هي ماء الملام وهذا الاعتذار فاسد لأن أبا تمام قال‏:‏ - قد استعذبت ماء بكائي - وإذا كان ماء الملام هو ماء بكائه فكيف يكون مستعفياً منه مستعذباً له‏.‏

وقال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي‏:‏ كيف يعاب أبو تمام إذا قال ماء الملام وهم يقولون كلام كثير الماء وقال يونس بن حبيب في تقديم الأخطل‏.‏

لأنه أكثرهم ماء شعر ويقولون ماء الصبابة وماء الهوى يريدون الدمع‏.‏

وقال ذو الرمة‏:‏ أأن توهمت من خرقاء منزلة ماء الصبابة من عينيك مسجوم وقال أيضاً‏:‏ أداراً بحزوى هجت للعين عبرة فماء الهواء يرفض أو يترقرق وقالوا‏:‏ ماء الشباب‏.‏

قال أبو العتاهية‏:‏ ظبى عليه من الملاحة حلة ماء الشباب يجول في وجناته وهي مكنونة تحير منها في أديم الخدين ماء الشباب فما يكون إذا استعار أبو تمام من هذا كله حرفاً فجاء به في صدر بيته لما قال في آخره - إنني صب قد استعذبت ماء بكائي - قال في أوله‏:‏ لا تسقني ماء الملام وقد تحمل العرب اللفظ على اللفظ فيما لا يستوى معناه‏.‏

قال الله جل وعز ‏"‏ وجزاء سيئة سيئة مثلها ‏"‏ فالسيئة الثانية ليست بسيئة لأنها مجازاة ولكنه لما قال وجزاء سيئة سيئة حمل اللفظ على اللفظ وكذلك‏:‏ ‏"‏ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ‏"‏ إنما حمل اللفظ على اللفظ فخرج الانتقام بلفظ الذنب لن الله عز وجل لا يمكر‏.‏

وكذلك ‏"‏ فبشرهم بعذاب أليم ‏"‏ لا قال فبشر هؤلاء بالجنة قال‏:‏ وبشر هؤلاء بالعذاب والبشارة إنما تكون في الخير لا في الشر هذه جملة ما قاله أبو بكر وهي غير لائقة بمثله من أهل العلم بالشعر لأن قولهم كلام كثير الماء وماء الشباب وقول يونس إن الأخطل أكثرهم ماء شعر إنما المراد به الرونق كما يقال ثوب له ماء ويقصد بذلك رونقه ولا يحسن أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذا الثوب كما لا يحمل أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة لأن هذا القول مخصوص بحقيقة الماء لا بماء هو مستعار له وأبو تمام بقوله‏:‏ لا تسقني ما الملام ذاهب عن الوجه على كل حال ثم لا يجوز أن يريد هنا بالماء بإنها الرونق عذلاً شبيهاً بالجنون كأنما قرأت به الورهاء شطر كتاب فبهذا وأمثاله ينعت الملام لا بالماء الذي هو الرونق والطلاوة فقد بان فساد هذا الاعتذار من هذا النحو وأما ماء الصبابة وماء الهوى فقد بين أبو بكر أنهم يريدون به الدمع فكيف يقول إنه استعارة والدمع ماء حقيقي بلا خلاف وعلى أي وجه يحمل ماء الملام في الاستعارة على ماء الدمع وهو حقيقة وأما مقابلة اللفظ باللفظ واستشهاده بالآيات المذكورة فقد ذكرنا الكلام عليه فيما تقدم وبينا أن هذا مجاز ولا يقاس عليه ولا يحسن منا المقابلة في موضع يعترضنا فيه فساد في المعنى أو خلفي اللفظ كهذه الاستعارة أو ما يجرى مجراها كما لا يحسن بنا غير ذلك في المجاز إذا أدى إلى اللبس والإشكال‏.‏

وقال أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي‏:‏ ليس قول أبي تمام لا تسقني ماء الملام بعيب عندي لأنه لما أراد أن يقول قد استعذبت ماء بكائي جعل للملام ماء ليقابل ماء بماء وإن لم يكن للملام ماء على الحقيقة فإن الله جل اسمه يقول‏:‏ ‏"‏ وجزاء سيئة سيئة مثلها ‏"‏ ومعلوم أن الثانية ليست بسيئة وإنما هي جزاء على السيئة وكذلك ‏"‏ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم ‏"‏ والفعل الثاني ليس بسخرية ومثل هذا في الشعر والكلام كثير ومستعمل فلما كان في مجرى العادة أن يقول القائل‏:‏ أغلظت لفلان القول وجرعته منه كأساً مرة أو سقيته منه أمر من العلقم وكان الملام مما وهذا الذي قاله أبو القاسم عن المقابلة قد ذكرناه فلا وجه لاعادة الكلام عليه وأما اعتذاره بأن العادة جارية أن يقال‏:‏ جرعته من القول كأسا مرة فلما استعمل في الملام التجرع على الاستعارة جعل له ماء على الاستعارة فلعمري أن هذا أقرب ما يعتذر به لأبي تمام في هذا البيت وأولى من جميع ما قد ذكر لما قدمناه من فساد التعلق بذلك لكنا قدمنا أن الاستعارة إذا بنيت على استعارة بعدت وإن اعتبر فيها القرب فماء الملام ليس بقريب وإن لم يعتبر فيها لم ينحصر وبنى على كل استعارة استعارة وأدى ذلك إلى الاستحالة والفساد على ما قدمناه وليس هذا البيت عندي بمحمود ولا من أقبح ما يكون في هذا الباب بعد قول أبي تمام‏:‏ لها بين أبواب الملوك مزامر من الذكر لم تنفخ ولا هي تزمر وقوله‏:‏ إلى ملك في أيكة المجد لم يزل على كبد المعروف من نيله برد وقوله‏:‏ وتقسم الناس السخاء مجزأ وذهبت أنت برأسه وسنامه وتركت للناس الإهاب وما بقي من فرثه وعروقه وعظامه فانظر كيف جعل للذكر مزامر لم تنفخ وللمعروف كبدا تبرد ولم يقنع بأن استعار للسخاء رأساً وسناما وإهابا وعظاما وعروقا حتى جعل له فرثا‏.‏

وتعالى الله كيف يذهب هذا على من يقول‏:‏ أخرجتموه بكره من سجيته والنار قد تنتضى من ناضر السلم ويقول‏:‏ وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود لكن أعوز الكمال واستولى الخلل على هذه الطباع فالمحمود من كانت سيئاته مغمورة بحسناته وخطأه يسيرا في جانب صوابه‏.‏

وقد قدمنا فيما مضى من هذا الكتاب أننا لم نذكر هذه الأبيات الذميمة وغرضنا الطعن على ناظمها وإنما قادتنا الحاجة في التمثيل إلى ذكر الجيد والردئ والفاسد والصحيح على ما ذكرناه سالفاً ومعاذ الله أن يخرجنا بغض التقليد وحب النظر من الطرف المذموم في الإتباع والانقياد إلى الجانب الآخر في التسرع إلى نقص الفضلاء والتشييد لما لعله اشتبه على بعض العلماء والرغبة في الخلاف لهم وإيثار الطعن عليهم بل نتوسط إن شاء الله بين هاتين المنزلتين فننظر في أقوالهم ونتأمل المأثور عنهم ونسلط عليه صافي الذهن ونرهف له ماضي الفكر فما وجدناه موافقاً للبرهان وسليما على السبر اعترفنا بفضيلة السبق فيه وأقررنا لهم بحسن النهج لسبيله‏.‏

وما خالف ذلك وباينه اجتهدنا في تأويله وإقامه المعاذير فيه وحملناه على أحسن وجوهه وأجمل سبله وإيجاباً لحقهم الذي لا ينكر وإذعاناً لفضلهم الذي لا يجحد وعلما أنهم لم يؤتوا من ضلالة ولا كلال ذهن وفطنة ولكن لاستمرار هذه القضية في المحدثين وعمومها أكثر المخلوقين ومن الله نستمد التوفيق والمعونة برحمته فهذه الجملة تكشف لك عن نهج الاستعارة وتوضح كيف تقع الألفاظ موقعها في المجاز‏.‏

فأما الحقيقة فلا نحتاج فيها إلى مثال لأن أكثر الكلام على ذلك ولكن ها هنا ألفاظ قد وضعت في غير موضعها ليس على وجه الاستعارة ولا الحقيقة فإنا أذكر لك منها ما تجعله دليلا على الباقي وتعتبر في الكلام الذي تؤثر معرفة حظه من الفصاحة أن يكون خالياً من مثل تلك الألفاظ بل كل كلمة منه موضوعة في موضعها اللائق بها إما حقيقة أو على وجه المجاز السائغ المختار الذي نبهتك على علمه‏.‏

فمن تلك الألفاظ قول أبي تمام‏:‏ سعى فاستنزل الشرف اقتساراً ولو لا السعى لم تكن المساعي فإن استنزال الشرف ليس بحقيقة فيه ولا على وجه الاستعارة الصحيحة لأن الشرف إذا حط وأنزل فقد وصف بما لا يليق به من الاذالة والخفض والمحمود في هذا أن يقال رفعت منار الشرف وشيدته فهو سام على الكواكب وعال عن درجة الأفلاك فأما استنزلته فلا يحسن في هذا الموضع البتة وقد كان يمكنه أن يعبر عن نيله الشرف ووصوله إليه بغير استنزاله‏.‏

فإن الرجل الشريف الآباء لو ذم لكان أبلغ ما يذم به أن يقال حططت شرفك ووضعت منه وما يجرى هذا المجرى‏.‏

فهذا هو وضع الألفاظ في غير الموضع الذي يليق بها‏.‏

ومن ذلك أيضاً قول أبي تمام‏:‏ جذبت نداه غدوة السبت جذبة فخر صريعاً بين أيدي القصائد لأن هذا الموضع لا يليق به جذبت والممدوح يوصف بأنه أعطى طوعاً واختياراً وحباً للكرم وصبابة إلى الإحسان‏.‏

وإذا جذب الندى حتى يخر صريعاً فليس من الطوع بشيء إنما ذلك لفظ القسر والغلبة والجبر وهذا لا يكون مدحاً إنما هو صريح الهجو ومحضه‏.‏

ومن هذا الفن أيضاً قوله‏:‏ ضعفت جوانح من أذاقته النوى طعم الفراق فذم طعم العلقم لأن دعاءه على من ذم طعم العلقم بالاضافة إلى طعم الفراق بضعف الجوانح كلام موضوع في غير موضعه وذكر الحواس التي يضاف إليها الذوق في هذا الموضع أليق فأما الجوانح فلا معنى لها وقوله‏:‏ ضعفت كلام ضعيف ها هنا فعلى هذا النحو يكون وضع الألفاظ في غير موضعها على الوجه الذي لا يوافق الاستعارة وحقيقتها فتأمله وقس غيره عليه فإنك تجده في الكلام كثيراً‏.‏

ومن وضع الألفاظ موضعها أن لا تقع الكلمة حشوا وأصل الحشو أن يكون المقصد بها اصلاح الوزن أو تناسب القوافي وحرف الروى إن كان الكلام منظوما وقصد السجع وتأليف الفصول إن كان منثورا من غير معنى تفيده أكثر من ذلك وهذا الباب يحتاج إلى شرح وبيان وتفصيله أن كل كلمة وقعت هذا الموقع من التأليف فلا تخلو من قسمين إما أن تكون أثرت في الكلام تأثيراً لولاها لم يكن يؤثر أو لم تؤثر بل دخولها فيه كخروجها منه وإذا كانت مؤثرة فهي على ضربين أحدهما أن تفيد فائدة مختارة يزداد بها الكلام حسنا وطلاوة والآخر أن تؤثر في الكلام نقصا وفي المعنى فساداً‏.‏

والقسمان مذمومان والآخر هو المحمود وهو أن تفيد فائدة مختارة ولكل من ذلك مثال فمثال الكلمة التي تقع حشوا وتفيد معني حسناً قول أبي الطيب‏:‏ وتحتقر الدنيا احتقار مجرب يرى كل ما فيها وحاشاك فانياً لأن حاشاك ها هنا لفظة لم تدخل إلا لكمال الوزن لأنك إذا قلت احتقار مجرب يرى كل ما فيها فانياً كان كلاماً صحيحاً مستقيما فقد أفادت مع اصلاح الوزن دعاءً حسنا للممدوح في موضعه‏.‏

ومثله قول أبي محلم‏:‏ لأن وبلغتها تجرى مجرى وحاشاك في الفائدة ولو ألغيت من البيت لصح المعنى دونها على حد ما قلناه في البيت الأول وليس يخفى على المتأمل حسن المقصود بحاشاك وبلغتها في هذين الموضعين وكذلك أيضاً قول أبي الطيب‏:‏ نهبت من الأعمار ما لو حويته لهنئت الدنيا بأنك خالد لأن قوله لهنئت الدنيا بمنزلة الحشو إذ كان المعنى يتم من دونه ولو استوى له أن يقول نهبت من الأعمار ما لو حويته لخلدت في الدنيا لكان المعنى مستقيما لكنه لما احتاج إلى ألفاظ يصح بها الوزن جاء بقوله لهنئت الدنيا فأنى بزيادة من المدح وفضلة من التقريظ والوصف لاخفاء بحسن موقعها فهذا وما اشبهه هو الحشو المحمود المختار‏.‏

وقد زل في هذا الموضع أبو هاشم عبد السلام بن محمد فالحق الحشو الجيد بالردئ وقال في المسائل البغداديات في مسئلة ذكرها في إيجاز القرآن أن الشاعر إذا احتاج إلى الوزن ذكر ما لا يحتاج إليه في الكلام المنثور ألا ترى إلى قول امرئ القيس‏:‏ ورضت فذلت صعبة أي إذلال ولو كان في الكلام لكان يقول‏:‏ ورضيت فذلت أي إذلال لو شاء ولو شاء لقال ورضت فذلت صعبة فقد بان أنهم ربما ذكروا المصادر والظروف ليتم الوزن هذا في الشعر الرصين‏.‏

ولهذا ما قال الأعشى‏:‏ ولولا الوزن لا كتفى بقوله‏:‏ فأصبت حبة قلبها وهذا كلام بعيد من الصواب لأن صعبة من بيت امرئ القيس وقوله أي إذلال حشو مختار حسن يقصد في المنثور مثله الحذاق بتأليفه لأنه لو قال ورضت فذلت لم يكن في الكلام دليل على أن هناك صعوبة ولا ثم تمنعا وبقوله‏:‏ صعبة قد حصل هذا وهو مقصود في الغرض لا يخيل على عاقل في هذا الموصوف وفي تأليف الكلام لا يخفى على من له أدنى علم بهذه الصناعة ثم في قوله بعد‏:‏ أي إذلال وصف حسن لذلها ليس يستفاد من الأول لموقع التعجب فيه والوصف وليس هذا الموضع مما يقصر في فهمه أحد من المتوسطين في هذا العلم‏.‏

وأبو هاشم وإن كان العالم المتقدم في صناعة الكلام فليس معرفته بالجواهر والأعراض وكلامه في العدل والألطاف مما يفيده العلم بصناعة نقد الكلام المؤلف وفهم النظم والنثر كما أن من المتقدمين في هذا العلم من يجهل أول ما يجب على العاقل فضلا عما تجاوزه ونعوذ بالله من تعاطى ما لا نحسنه ونسأله التوفيق والعصمة فيما نقوله ونفعله‏.‏

فأما بيت الأعشى فالأمر فيه على ما وقع لأبي هاشم وهو من أقبح الحشو ولا مناسبة بينه وبين بيت امرئ القيس في حال من الأحوال ومما تزدادج به عجبا أن على بن عيسى الرماني نقض على أبي هاشم مسائله هذه بكتاب معروف قصره على نقضها واعتمد فيه المناقشة وترك المسامحة في كل لفظة من ألفاظ أبي هاشم فلما وصل إلى هذه المسألة ونقضها لم يعرض لهذا الموضع الذي ذكرناه بل ظهر من كلامه أنه موافق فيه مسلم له‏.‏

ولا نعلم السبب الموجب لخفاء مثله على أبي الحسن مع مكانه المشهور من الأدب‏.‏

وأما مثال الكلمة التي تقع حشواً وتؤثر في المعنى نقصاً وفي الغرض فساداً فكقول أبي الطيب يمدح كافورا‏:‏ ترعرع الملك الاستاذ مكتهلا قبل اكتهال أديباً قبل تأديب لأن قوله‏:‏ الاستاذ بعد الملك نقص له كبير وبين تسميته له بالملك والأستاذ فرق واضح فالاستاذ قد وقع ها هنا حشواً ونقص به المعنى إذ كان الغرض في المدح تفخيم أحوال الممدوح وتعظيم شأنه لا تحقيره وتصغير أمره وقد رأيت في أخبار كافور الأخشيدي ما يقيم عذر أبي الطيب في هذا ويزيل عنه بعض اللوم وذلك أنه روى أن كافوراً لما غلب على ولد الأخشيد فاستبد بالأمور دونهم لم يخرج بذلك عن حد المدبر إلى المالك ولم يقم له على منبر دعوة ولا نقش باسمه سكة ولا اختار أن يخاطب إلا بالأستاذ فلم يسم في مدة أيامه بالأمير ولا بغيره مما يخاطب به من جرى مجراه‏.‏

فإذا كان الأمر على هذا - ولا شك في صحته - فإن الاستاذ صار له بمنزلة اللقب الذي لا يجوز تغييره فإذا علم منه الشعراء حب المخاطبة بهذه التسمية نظموا ذلك في مديحهم فكأن أبا الطيب ذكر الاستاذ بعد الملك علماً منه بغرض كافور فأما تمثيلنا نحن بهذا البيت فصحيح وفي حكم النظم والنثر أن لا تذكر هذه الكلمة بعد كلمة هي أشرف منها بدرحة عالية‏.‏

فإن زعم زاعم‏:‏ أن أبا الطيب قصد بقوله الاستاذ تقريع كافور بذلك بأنه خصى ونقصه كما كان يقصد ذلك بذكر سواده فإن هذه اللفظة أعني الاستاذ قد صارت في العرف مختصة بذلك وقد قال أبو الطيب كان كافور الأخشيدي يشق عليه أن يعرض له بالسواد فكنت أعتمد معه في كل قصيدة ذكر سواده حتى قلت فيه‏:‏ بشمس منيرة سوداء‏.‏

وقلت‏:‏ سوابق خيل يهتدين بادهم وغير ذلك مما هو موجود في المديح لكافور فلعمري أن هذا القول مروى عن أبي الطيب لكنا إذا تكلمنا على المديح وما يجب أن يكون مبنياً عليه من التعظيم للمدوح لم نعرج على ما يقصده المادح من منافاة هذا الغرض إذ كان هذا بخلاف ما هو بصدده وقاصده وليس يكون فيه أكثر من عذر المادح وأنه لم يخف عنه ما يجب عليه وإنما قصده وتعمده فأما أن يكون ذلك سبباً لصحة الكلام في نفسه فلا ونحن إنما نتكلم على ذلك‏:‏ فأما قول أبي الطيب أيضاً‏:‏ فلا فضل فيها للشجاعة والندى وصبر الفتى لولا لقاء شعوب فإن الندى ها هنا حشو يفسد المعنى وذلك أن مقصوده أن الدنيا لا فضل فيها للشجاعة والصبر لولا الموت لأن الشجاعة إذا علم أن يخلد فأس فضل لشجاعته وكذلك الصابر فأما الندى فمخالف لذلك لأن الإنسان إذا علم أنه يموت هان عليه بذل ماله وكذلك يقول إذا عوتب في بذله كيف لا أبذل ما لا أبقى له ومن أين أثق بالتمتع بهذا المال والأمر في هذا ظاهر قال طرفة‏:‏ فإن كنت لا أسطيع دفع منيتي فذرني أبادرها بما ملكت يدي وقال مهيار بن مرزويه‏:‏ وكل إن أكلت وأطعم أخاك فلا الزاد يبقى ولا الآكل وأما إذا كان الإنسان خالداً في الدنيا ثم جاد بماله فلعمري أن كرمه يكون أفضل وبذله لماله أشد والأمر في ذلك مخالف لحكم الشجاعة بغير شك لأن تلك لولا الموت لم تحمد والندى بالضد وإذا كان الأمر على هذا كان قوله والندى حشوا يفسد المعنى وقد قال الشريف المرتضى علم الهدى رضى الله عنه أن المراد بالندى في البيت بذل النفس لا بذل المال كما قال مسلم بن الوليد‏:‏ يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود قال وإذا جاز أن يسمى بدل النفس جولاً جاز أن يسميه ندى أيضاً وكرماً وسخآء وهذا الذي ذكره رحمه الله اقصى ما يجوز أن يتأول به ولا يحمل قول الشاعر على الفساد وإما إذا عدنا إلى التحقيق علمنا أن لفظ الندى المطلق لا يفيد إلا بذل المال والكرم ولا يكاد يستعمل في بذل النفس وإن استعمل فعلى وجه الإضافة فأما مع الاطلاق فلا يفيد ذلك ثم إذا سوغنا ما ذهب إليه على بعده كان لفظ الندى حشوا لأن الشجاعة قد أغنت عنه فيمكن حمل هذا البيت على الحشو الذي يحيل به المعنى على ما ذكرناه من تأويله الظاهر وعلى الحشو الذي يكون غير مؤثر في الكلام على خرجه الشريف رحمه الله وتأويله‏.‏

وأما الكملة التي تقع حشوا غير مؤثرة فأمثلتها كثيرة موجودة في النظم والنثر ومنها قول أبي تمام‏:‏ جذبت نداه غدوة السبت جذبة فخر صريعاً بين أيدي القصائد لأن قوله‏:‏ غدوة السبت حشو لا يحتاج إليه ولا تقع فائدة بذكره ومن ذا الذي يؤثر أن يعلم اليوم الذي أعطى الممدوح فيه أبا تمام ما أعطاه وأي فرق بين أن يقع عطاؤه في يوم السبت أو الأحد أو غيرهما من الأيام وما بقي عليه شئ إلا أن يخبر بتاريخ‏:‏ لك الوقت وموقع ذلك اليوم م الشهر فمثل هذا وأشباهه الحشو الذي يقع ولا تعرض في ذكره فائدة إلا ليصح الوزن وهو عيب فاحش في هذه الصناعة وما أكثر ما تستعمل أمسى وأصبح وأخواتها في هذا الموضع من الحشو ويجب أن تعتبر ذلك بأن تنظر الفائدة فيه فإن كان الأمر الذي ذكر أنه أصبح فيه لم يكن أحسن فيه‏.‏

فالفائدة حاصلة‏.‏

وإن كان الأمر بخلاف ذلك فهو حشو لا يحتاج إليه فاعتبار الفائدة فيه هو الأصل الذي يرجع إليه ويعول على النظر من جهته‏.‏

ومثال ذلك أن يقال‏:‏ أصبحنا مغيرين على بني فلان فإن موقع أصبحنا في هذا الموضع موقع صحيح لأنهم لم يكونوا أغاروا عليهم في وقت المساء‏.‏

ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ‏"‏ لأن الأمر لم يطرقهم إلا ليلاً فأما لو قال قائل‏:‏ أصبح العسل حلوا لكان قوله‏:‏ أصبح حشواً لأنه قد أمسى كذلك ويدل على صحة هذا واعتبار العلماء له ما ذكره أبو الحسن على بن عيسى الرماني في كتابه المعروف بالجامع في علم القرآن فإنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ‏"‏ وإنما ذكر الصباح من غير أن يرد به معنى الصباح لأنهم بمنزلة من أصبح على أسوإ حال وذلك لأن أكثر ما يكون من هيجان الإعلان بالليل فيؤمل لصاحبها حسن الحال عند الصباح فإذا كان الضد من ذلك حصل على الهلاك فلم يرض أبو الحسن أن تقع أصبح في كلام الله تعالى حشوا بل تأول ذلك كما يتأوله مثله وفي ضمن قوله الشهادة بما ذكرناه والاذعان له‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف يمكنكم أن تقولوا هذا وعلى الصحيح من مذاهبكم أن دليل الخطاب عندكم ليس بحجة وأن تعليق الحكم باسم أو صفة أو شرط أو غاية لا يدل على انتفائه بانتفاء ذلك وإذا كان هذا قولكم فليس في قول القائل‏:‏ أصبحي السكر حلواً دليل على أنه لم يمس كذلك كما زعمتم أن ليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ في سائمة الغنم الزكاة دليل على أن المعلوفة لا زكاة فيها ولا يمتنع عندكم أن يقال في ساعة الغنم الزكاة وإن كانت واجبة في معلومتها فكذلك لا يقبح أن يقال أصبح العسل حلواً‏.‏

لأن وإن كان قد أحسن أيضاً بهذه الصفة قيل الجواب عن هذا السؤال‏:‏ إن الفرق بين ما نحيره من تعايق الحكم بصفة وثبوته لما انتفت عنه تلك الصفة في مثل الصفة في مثل قوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة وبين ما تكرهه من قول القائل أصبح السكر حلواً النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال في سائمة الغنم الزكاة فليس مراده أن يبين لنا حال المعلوفة هل تجب فيها الزكاة أم لا بل هي مسكوت عنها فنجوز فيها ما كنا نجوزه في السائمة قبل هذا القول وليس كذلك قول القائل‏:‏ أصبح العسل حلواً لأنه يريد حلو في كل حال من صباح أو مساء فلذلك كان ذكر الصباح حشواً‏.‏

ومثاله في مسألتنا أن يكون صلى الله عليه وسلم يقصد أن يبين لنا حال الزكاة في الغنم جميعها السائمة والمعلوفة ثم يقول في سائمة الغنم الزكاة فإنا نقول إن هذا اللفظ غير موافق للمقصود إذ كان لا يعطينا تصريحه ولا فحواه في المعلوفة حكماً كما قلنا إن من أراد أن يصف لنا العسل بالحلاوة في جميع الأوقات ثم قال أصبح العسل حلواً فإنه قد أتى بأصبح حشواً لغير فائدة فبان الفرق بين الأمرين ومن الحشو أيضاً قول أبي تمام‏:‏ كالظبية الأدماء صافت فارتعت زهر العرار الغض والجثجاثا فإن الجثجاث إنما جاء به حشواً لأجل القافية وإلا فليس للظبية فضيلة إذا ارعت الجثجاث ولا له فيها ميزة على غيره من النبات وقد سبقه إلى مثل هذا الحشو في القافية عدى بن الرقاع العاملي فقال‏:‏ وكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جاذر جاسم لأن جاسم إنما وردت هنا لأجل القافية لا لمعنى فيها وهي قرية بالشام من أعمال دمشق وفيها ولد أبو تمام الطائي وليس لجاذرها ميزة على غيرها وقد سألت عن ذلك جماعة ممن يخبر تلك الناحية فما وجدت عندهم فيها إلا ما عندهم في غيرها من البلاد‏.‏

ومن ذلك أيضاً قول علي بن محمد البصري‏:‏ وسابغة الأذيال زعف مفاضة تكنفها مني بجاد مخطط فليس لكون البجاد مخططاً تأثير في صفة الدرع وإنما الغرض بذكره القافية‏.‏

وأضداد هذا في وقوع الفائدة بالكلمة التي تكون فيها القافية فكثير ومنه قول امرئ القيس‏:‏ كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب فإنه لما أتى على التشبيه قبل القافية واحتاج إليها جاء بزيادة حسنة في قوله‏:‏ لم يثقب لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون‏.‏

وكذلك قول زهير بن أبي سلمى‏:‏ فقوله‏:‏ لم يحطم في هذا البيت مثل لم يثقب في البيت الذي قبله وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر عن محمد بن يزيد المبرد عن التوزي‏.‏

قال قلت للأصمعي‏:‏ من أشعر الناس‏.‏

فقال‏:‏ من يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا أو الكبير فيجعله بلفظه خسيساً أو ينقضى كلامه قيل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى قال نحو من قال‏:‏ نحوذى الرمة‏:‏ حيث يقول‏:‏ قف العيس في أطلال مية فأسأل رسوماً كأخلاق الرداء فتم الكلام‏.‏

ثم قال‏:‏ المسلسل فزاد شيئاً ثم قال‏:‏ أظن الذي يجدى عليك سؤالها دموعا كتبديد الجمان فتم كلامه ثم قال‏:‏ المفصل فزاد شيئاً‏.‏

قال قلت ونحو من قال الأعشى حيث يقول‏:‏ كناطح صخرة يوماً ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل فزاد معنى‏.‏

قال قلت‏:‏ وكيف صار الوعل مفضلاً على كل ما ينطح قال‏:‏ لأنه ينحط من أعلى الجبل على قرنيه فلا يضيره‏.‏

وقد سمى أصحاب صناعة الشعر هذا المعنى الايغال وأرادوا بذلك أن الشاعر يوغل بالقافية في الوصف إن كان واصفاً وفي التشبيه أن كان مشبهاً‏.‏

ويجب أن تعلم أن هذا الموضع من حشو البيت شديد المراعاة لأجل أنه القافية فإذا وقعت فيه الأصابة أو الخطأ كان أظهر لهما إذا وقعا في كلمة من متن البيت لما يختص به هذا الموضع من فضل العناية إذ كان متميزاً بالقصد مما هو طرف وقافية‏.‏

وعلى هذا يقع الأمر أيضاً في السجع من الكلام المنثور وكثيراً ما يتعذر على مؤلفه القرينة فيتحمل الكلام تمحلا شديداً ويأتي بمعان خارجة عن غرضه حتى يظفر بالسجعة بعد تعب ويكون معها بمنزلة من يطلب شيئاً يقصده فهو يجد في الطلب والمقصود يجتهد في الهرب ويجئ من هذا اختلاف الفصول في الطول والقصر يجتهد في الهرب ويجئ من هذا اختلاف الفصول في الطول والقصر لأنه يحتاج في طلب القرينة إلى إطالة الفصل حتى يزيد على ما قبله زيادة فاحشة وهذا عيب ظاهر في أكثر من ينتحل صناعة الكتابة في زماننا هذا‏.‏

وقد سن الكتاب المتقدمون من تجنب السجع في أكثر كلامهم سنة لو اعتمدت لوجدت فيها الراحة من هذا العارض لأنهم إذا كانوا لا يحفلون بالسجع فالواجب اطراحه في الموضع الذي يكون متكلفاً نافراً‏.‏

فأما الشعر فلا مندوحة عن القافية فإن تعذرت في البيت فليس غير ترك ذلك البيت رأساً وسيأتي الكلام في هذا الباب إذا صرنا إلى ذكر التناسب في الألفاظ بمشيئة الله وعونه‏.‏

فأما زيادة‏:‏ ما في قول الله تعالى ‏"‏ فبما رحمة من الله لنت لهم وقوله تعالى ‏"‏ فبما نقضهم ميثاقهم ‏"‏ فإن لها هنا تأثيراً في حسن النظم وتمكيناً للكلام في النفس وبعداً به عن الألفاظ المبتذلة فعلى هذا لا يكون حشوا لا يفيد‏.‏

وأهل النحو يقولون إن ما في هذا الموضع صلة مؤكدة للكلام وقد يكون التوكيد عندهم بالتكرار كما يكون بالعلامة الموضوعة له وإذا أفاد الكلام شيئاً فليس من الحشو المذموم لأن حقيقة الحشو هو الذي يكون دخوله في الكلام وخروجه على سواء‏.‏

وإنما الغرض به إقامة الوزن في الشعر أو ما يجرى مجرى ذلك في النثر وقد جاءت أيضاً‏:‏ ما في الشعر أيضاً على معنى ما وردت في الآية قال الشاعر‏:‏ فاذهبي ما إليك أدركني الح لم عداني عن هيجكم اشغالي ومن هذا القبيل أيضاً دخولها في‏:‏ ابنما‏.‏

قال المتلمس‏:‏ وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله ألا أن أكون لها ابنما وقال الآخر‏:‏ لقيم بن لقمان من أخته فكان ابن أخت له وابنما وورودها في هذا الموضع خاصة كثير فهذا مبلغ ما نقوله في الحشو ليكون دليلا على غيره ومنبها على مثله‏.‏

ومن وضع الألفاظ موضعها اللائق بها أن لا يكون الكلام شديد المداخلة يركب بعضه بعضاً وهذا هو المعاظلة التي وصف عمر بن الخطاب رضى الله عنه زهير بن أبي سلمى بتجنبها‏.‏

فقال‏:‏ كان لا يعاظل بين الكلام لأن المعاظلة المداخلة ومن ذلك يقال معاظلة الكلاب وغيرها مما يتعلق بعضه ببعض عند السفاد وقد غلط في تمثيل هذا أبو الفرج قدامة ابن جعفر الكاتب وبين خطأه فيه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي رحمه الله‏.‏

لأن أبا الفرج قال‏:‏ إن المداخلة التي تكره ووصف عمر رضي الله عنه زهيراً بتجنبها أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه قال وما أعرف ذلك ألا فاحش الاستعارة مثل قول أوس بن حجر‏:‏ وذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولباً جدعا فسمي الصبي تولباً والتولب ولد الحمار‏.‏

ومثل قول الآخر‏:‏ وما رقد الولدان حتى رأيته على البكر يمريه بساق وحافر فسمى رجل الإنسان حافراً وهذا ليس من المعاظلة التي هي ركوب بعض الكلام بعضاً ومداخلة بعضه في بعض والصحيح من تمثيل ذلك ما ذكره أبو القاسم الآمدي وهو قول أبي تمام‏:‏ خان الصفاء أخ خان الزمان أخاً عنه فلم يتخون جسمه الكمد لأن ألفاظ هذا البيت تيشبث بعضها ببعض وتدخل الكلمة من أجل كلمة أخرى تجانسها وتشبهها مثل خان وخان ويتخون وأخ وأخ فهذا هو حقيقة المعاظلة‏.‏

وكذلك قول أبي تمام أيضاً‏:‏ فقوله‏:‏ يا يوم شرد يوم لهوى لهوه شديد التعاظل حتى كأنه سلسلة ومنه أيضاً قول أبي تمام‏:‏ يوم أفاض جوى أغاض تعزياً خاض الهوى بحرى حجاه المزبد وقال أبو القاسم‏:‏ فإن قال قائل إن هذا الذي أنكرته من تشبث الكلام بعضه ببعض وتعلق كل لفظة بما يليها وادخال كلمة من أجل أخرى تشبهها وتجانسها هو المحمود من الكلام وليس من المعاظلة في شئ ألا ترى أن البلغاء والفصحاء لما وصفوا ما يستجاد ويستحب من النثر والنظم‏.‏

قالوا‏:‏ هذا كلام يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض‏.‏

قيل‏:‏ هذا صحيح من قولهم ولم يريدوا به هذا الجنس من النظم والنثر ولا قصدوا هذا النوع من التأليف وإنما أرادوا المعاني إذا وقعت ألفاظها في مواقعها وجاءت الكلمة مع أختها المشاكلة لها التي تقتضي أن تجاورها بمعناها أما على الإتفاق أو التضاد حسبما توحيه قسمة الكلام وأكثر الشعر هذا سبيله‏.‏

وذلك نحو قول زهير‏:‏ سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأم لأنه قال في أول البيت‏:‏ سئمت‏.‏

وقال‏:‏ ومن يعش ثمانين حولا اقتضى أن يكون في آخره يسأم‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ الستر دون الفاحشات وما يلقاك دون الخير من ستر فإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تقصدوا الذم لا نقصد فإن كل لفظة تقتضي ما بعدها فهذا هو الكلام الذي يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض وإذا أنشدت صدر البيت علمت ما يأتي من عجزه فالشعر الجيد أو أكثره على هذا مبنى وهذا الذي ذكره أبو القاسم رحمه الله‏:‏ صحيح ويجب أن يقتدى به في هذا الباب وقد بين المعاظلة وفرق بينها وبين غيرها من العيوب بالتمثيل الذي ذكره‏.‏

فأما الذي قاله من دلالة بعض الكلام على بعض حتى يمكن استخراج قوافيه إن كان شعراً ويكون بعض البيت شاهداً لبعض فهو من النعوت المحمودة وسيأتي الكلام في ذلك مستوفى عند ذكر القوافي والأسجاع بعون الله ومشيئته‏.‏

وبعض الناس يسمى هذا الفن من الشعر التوشيح وبعضهم يسميه التسهيم ومثاله قول الشاعر‏:‏ عجبت لسعي الدهر بيني وبينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر وقول عمرو‏:‏ وكنت سناماً في فزارة تامكا وفي كل حي ذروة وسنام وقوله أيضاً‏:‏ إذا لم تستطع شيئاً فدعه وحاوزه إلى ما تستطيع مشيب كبث السرعى بحمله محدثه أو ضاق صدر مذيعه تلاحق حتى كاد يأتي بطيئه بحث الليالي قبل أتى سريعه وقوله‏:‏ أبكيكما دمعاً ولو أني على قدر الجوى أبكى بكيتكما دما لأن هذه الأبيات كلها إذا سمع الإنسان صدورها وكان قد عرف الروى المقصود فيها أن عرف الكلمة التي تكون قافية قبل الوصول إليها وأمثال هذا كثيرة‏.‏

وسيأتي ذكرها في باب القوافي والأسجاع وترك التكلف والتعقيد في الكلام بمشيئة الله وعونه‏.‏

ومن وضع الألفاظ المعروفة للمدح بل يستعمل في جميع الأغراض الألفاظ اللائقة بذلك الغرض في موضعها أن لا تعبر عن المدح بالألفاظ المستعملة في الذم ولا في الذم موضع الجد ألفاظه وفي موضع الهزل ألفاظه ومثال ما استعمل من هذه الألفاظ في غير موضعه قول أبى تمام‏:‏ ما زال يهذى بالمكارم دائباً حتى ظننا أنه محموم وقوله‏:‏ وتثفى الحرب منه حين تغلى مراجلها بشيطان رجيم وقوله‏:‏ وقوله الحسين بن الضحاك‏:‏ كذا من يشرب الراح مع التنين في الصيف وقول أبى نواس‏:‏ جاد بالأموال حتى حسبوه الناس حمقا وقول العنبري‏:‏ ما كان يعطى مثلها في مثله إلا كريم الخيم أو مجنون وقول أبى تمام‏:‏ يا أبا جعفر جعلت فداك فاق حسن الوجوه حسن قفاك لأن يهذى والمحموم والشيطان الرجيم والتنين والحمق والجنون وذكر القفا من الألفاظ التي تستعمل في الذم وليست من ألفاظ‏.‏

المدح‏.‏

وقد كان بعض الأدباء يعيب قول ابن الرومى‏:‏ من شعرها من فضة وثغرها من ذهب ويقول‏:‏ إن التشبيه بالفضة والذهب إنما يقع في المدح وكان يجب أن يهجو هذه المرأة بما يستعمل من ألفاظ الذم وطرقه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إذا كان التنين هو الحية وكانوا كثيراً ما يشبهون الممدوح بالحية‏.‏

ويقولون‏:‏ هو صل يمد يديه في المفاضة ضيغم وعيناه من تحت التريكة أرقم وقال آخر‏:‏ إني على رأس العدو وتحته لغمام قسطلة وحية واد وقال الرضى‏:‏ نبهت منى يا أبا الغيداق أصم لا يسمع صوت الراقي ذا ريقة تهزأ بالدرياق كأنما أم من الإطراق وقال حريث بن عناب‏:‏ أترجو الحياة يا بن بشر بن مسهر وقد علقت رجلاك في ناب أسودا من الصم تكفى مرة من لعابه وما عاد إلا كان في العود أحمدا وأمثال هذا كثيرة فكيف يكون ذكر التنين عيباً ولا يكون ذكر الأرقم والصل والأسود عيباً أن ومعنى الجميع واحد‏.‏

قيل له‏:‏ إننا لم ننكر التنين لأجل معناه فيقال لنا‏:‏ إن معنى التنين والحية واحد وإنما عبناه من أجل مدحه لأن هذه اللفظة لم تستعمل في المدح وتلك الألفاظ قد استعملت فيه وليس يمتنع أن يكون للشئ الواحد اسمان يستعمل أحدهما في موضع ويستعمل الآخر في موضع آخر وهذا شئ إنما أصله العرف والعادة دون أصل وضع الأسماء في اللغة ألا ترى أن الإنسان إذا مدح ذكر الرأس والكاهل والهامة وإذا هجا ذكر القفا والأخادع والقذال وإن كانت معاني الجميع متقاربة‏.‏

وليس يحسن أن يخاطب الملوك فيقال لبعضهم وحق يا فوخك أو قمحدودتك أو أخادعك أو قذالك أو قفاك قياساً على أن يقال له وحق رأسك لأن الاستعمال يختلف في الألفاظ وإن كان المعنى فيها غير مختلف على ما قدمناه‏.‏

ومن هذا الجنس حسن الكناية عما يجب أن يكنى عنه في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح وذلك أصل من أصول الفصاحة وشرط من شروط البلاغة‏.‏

وإنما قلنا في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح لأن مواضع الهزل والمجون وإيراد النوادر يليق بها ذلك ولا تكون الكناية فيها مرضية فإن لكل مقام مقالاً أن ولكل غرض فنا وأسلوباً ومما يستحسن من الكنايات قول امرئ القيس‏:‏ فصرنا إلى الحسنى ودق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال لأنه كنى عن المباضعة بأحسن ما يكون من العبارة‏.‏

وروى عن أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة‏:‏ أنه لما أجاب أبا الجيش خمارويه بن أحمد ابن طولون عن المعتضد بالله من كتابه بانفاذ ابنته التي زوجها منه‏.‏

قال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمنيك عناية بها وحياطة لها ورعاية لمواتك فيها‏.‏

وقال للوزير أبى القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب‏:‏ والله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة واستحسنت هذه الكناية حتى صار الكتاب يعتمدونها‏.‏

وكتب أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بختيار بن معز الدولة إلى أبى تغلب ابن ناصر الدولة في انفاذ ابنته المزوجة منه‏:‏ وقد توجه أبو النجم الحرمى أيده الله نحوك بالوديعة وهو الأمين على ما يحوطه ويحفظه والوفى بما يحرسه ويلحظه وإنما نقلت من مغرس إلى معرس ومن وطن إلى سكن ومن مأوى بر وانعطاف وإلى مثوى كرامة وإلطاف‏.‏

فأجاب أبو تغلب عن هذا بكتاب من إنشاء أبي الفرج الببغا قال في جوابه عن هذا الفصل‏:‏ ووصل أبو النجم بدر الحرمى بالأمانة العظيم قدرها والصفوة البينة نسبها وذكرها‏.‏

فقال‏:‏ عوض الوديعة الأمانة ليغاير بين اللفظين‏.‏

وكذلك سبق بعضهم إلى الكناية عن الهزيمة بالتحيز اتباعاً لقول الله تعالى ‏"‏ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ‏"‏ ثم صارت هذه العبارة للكتاب سنة‏.‏

وخبرني من أثق به عن رجل من أهل بغداد يصنع الغزل من الذهب‏.‏

قال‏:‏ أحضرني الوزير أبو الحسن على بن عبد العزيز المعروف بابن حاجب النعمان وزير القادر بالله وأخرج إلى علماً مذهباً عليه اسم المقتدر بالله قد بلى وخلق ونقى فيه الذهب‏.‏

فقال لي كيف السبيل إلى أخذ ما على هذا من الذهب فقلت‏:‏ يحرق فصاح صيحة عظيمة وقال ويلك ما هذا التهجم أتحرق أعلام أمير المؤمنين وأمر بإخراجي فدفعت وقد قاربت التلف من هيبته والخوف منه وتعقبني أهل المجلس بالسؤال في بسط عذرى بعدم الفهم لما أنكره على فأمر بإعادتي إليه وقال‏:‏ هيه ما الذي تقول‏.‏

فقلت‏:‏ ما يرسمه سيدنا الوزير فقال قل‏:‏ يستخلص‏.‏

فقلت‏:‏ يستخلص فقال خذه وانصرف فأخذت العلم ومضيت فأحرقته وأحضرت له ما خرج فيه من الذهب فأخذه‏.‏

ومن هذا الفن أيضاً من حسن الكناية قول أبي الطيب‏:‏ تدعى ما ادعيت من ألم الشو ق إليها والشوق حيث النحول لأنه كنى عن كذبها فيما ادعته من شوقها بأحسن كناية وكذلك قوله‏:‏ لو أن فنا خسر صبحكم وبرزت وحدك عاقه الغزل لأنه أراد انهزم فكني عن هزيمته بعاقه الغزل‏.‏

وتلك أحسن كناية في هذا الموضع واضداد هذا من قبح العبارات قول أبي الطيب‏:‏ إني على شغفي بما في خمرها لأعف عما في سراويلاتها وقول الآخر‏:‏ تعطين من رجليك ما تعطى الأكف من الرغاب وقول الرضى يرثى والدته‏:‏ كان ارتكاضي في حشاك مسبباً ركض الغليل عليك في أحشائي لأنك إذا تأملت هذين البيتين وجدتهما يجريان من بيت امرئ القيس مجرى الضد وذلك أن امرأ القيس عبر عما يجب أن يكنى عنه من المباضعة فكنى بأحسن كناية وهذان عبرا عما لا يجب أن يكنى عنه فأتيا بالفاظ يجب عنها وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى كانا يأكلان الطعام كناية عن الحدث وليس الأمر على ما قال بل معنى الكلام على ظاهره لأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثاً كذلك لا يجوز أن يكون طاعماً وهذا شئ ذكره أبو عثمان الجاحظ وهو صحيح‏.‏

ومن وضع الألفاظ موضعها‏:‏ أن لا يستعمل في الشعر المنظوم والكلام المنثور من الرسائل والخطب‏:‏ ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم والألفاظ التي تختص بها أهل المهن والعلوم لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وكلام أصحاب تلك الصناعة‏.‏

وبهذا شرف كلام أبى عثمان الجاحظ وذلك أنه إذا كاتب لم يعدل عن ألفاظ الكتاب وإذا صنف في الكلام لم يخرج عن عبارات المتكلمين فكأنه في كل علم يخوض فيه لا يعرف سواه ولا يحسن غيره‏.‏

ومما يذكر من هذا النوع في استعمال ألفاظ المتكلمين قول أبي تمام‏:‏ مودة ذهب أثمارها شبه وهمة جوهر معروفها عرض خرقاء يلعب بالعقول حبابها كتلعب الأفعال بالأسماء وقول أبي الطيب‏:‏ إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم وقوله‏:‏ وكان ابنا عدو كاثراه له ياءى حروف أنيسيان وقول أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان فيما قرأته عليه‏:‏ تلاق تفرى عن فراق تذمه مآق وتكسير الصحائح في الجمع وقوله أيضاً في بعض رسائله‏:‏ فحرس الله عز سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء فتلك حراسة بغير انتهاء وكثيراً ما يسلك هذه الطريقة في كلامه وهي لائقة به لأنه لم تكن له يد في صناعة الكتابة ولا طريقة محمودة وإنما رسائله معدودة في كتب اللغة ودساتير الأدب فاستعمال هذا وما يجرى مجراه فيها لائق ومن هذا النوع ما يحكى من أشعار أصحاب المهن واستعمالهم لألفاظ صناعاتهم ومعانيها فيما ينظمونه أو ينثرونه وربما كان ذلك أو بعضه شيئاً يصنع وينسب إليهم‏.‏

وحكى أن بعض المهندسين حضرته الوفاة فقال‏:‏ يا عالماً بجذر الأصم ومحيط الدائرة لا تقبض روحي إلا على خط مستقيم وزوايا قائمة‏.‏

وقيل أن بعض الملوك أنفذ صاحباً له في جيش وكان طبيباً فلما عاد إليه سأله عن الوقعة فقال له‏:‏ التقت الفئتان في موضع كرحبة البيمارستان فلو ألقى مبضع لما وقع إلا على قيفال فما كانت إلا ساعة حتى أبحر أعداؤنا بحراناً مهلكأن وعدنا في صحة مطلقة باقبالك يا معتدل المزاج‏.‏

وخبرت أن عز الدولة بختيار بن معز الدولة قال يوماً وفي مجلسه جماعة من ندمائه وكتابه‏:‏ لينشدني كل واحد منكم أغزل ما يعرفه من الشعر فأنشده كل واحد منهم ما حضره فلما انتهى القول إلى أبي الخطاب مفضل بن ثابت الصابي وكان أبوه طبيباً أنشده قول أبي العتاهية‏:‏ قال لي أحمد ولم يدر ما بي اتحب الغداة عتبة حقاً فتنفست ثم قلت نعم حباً جرى في العروق عرقا فعرقا فقال له‏:‏ بختيار لا تخرج بنا يا أبا الخطاب عن صناعة الطب التي ماترثها عن كلالة وكان أصحابنا إذا سمعوا قول المهلبي‏:‏ يا من له رتب مم كنة القواعد من فؤادي قالوا‏:‏ هذا يصلح أن يكون شعر بناء‏.‏

وقال الظاهر الجزري‏:‏ محاسنه هيولي كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال وهذا كأنه شعر فيلسوف وحكى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‏.‏

قال‏:‏ أنشدت أبا شعيب ودار ندامى عطلوها وأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس فقال‏:‏ هذا شعر لو نقرته طن فوصفه من طريق صناعته وقال‏:‏ أبو القاسم الآمدى في قول أبي تمام‏:‏ العارن والنار والمكروه والعطب والقتل والصلب والمران والخشب هذا كأنه من كلام خالد الحداد‏.‏

وكان بمعرة النعمان شارع يعرف بالوامق موصوف بالخلاعة والمجون فكان ينظم أشعاراً‏:‏ في حائك واسكاف وصائغ ومن يجرى مجراهم ويستعمل ألفاظ تلك الصناعة ومعانيها في ذلك الشعر فمما يروى له في غلام اسكاف قوله‏:‏ إن سن بالهجران شفرته ليقد قلبي قد مجتهد فلأصبرن كصبر تجتجة متمسكاً بمحلل العقد وهذا إنما يسوغ على هذا السبيل من الهزل والخلاعة فأما في باب الجد فليس يحسن أن يستعمل في كل موضع منه إلا الألفاظ اللائقة به‏.‏

وشعر أبي عبد الله بن الحجاج وأن تضمن كثيراً من الألفاظ التي لا تحسن في مواضع الجد فإنه قد جاء بها في الموضع اللائق بها ولأجل هذا حسنت ولم تقبح ألا ترى أن قول ابن نباتة‏:‏ وقال لنا الزمان ظلمتموهم فقلنا للزمان دع الفضولا ليس بمختار على طريقته في الجد وفنه ولو ورد في شعر أبي عبد الله بن الحجاج كان مرضياً مختاراً‏.‏

ومن شروط الفصاحة‏:‏ المناسبة بين الألفاظ وهي على ضربين مناسبة بين اللفظين من طريق الصيغة‏.‏

ومناسبة بينهما من طريق المعنى فأما المناسبة من طريق المعنى فسنذكرها في المعاني إذا وصلنا إليها من هذا الكتاب بعون الله ومشيئته‏.‏

وأما المناسبة بينهما من طريق الصيغة فلها تأثير في الفصاحة ومثال ذلك ما رواه أبو الفتح عثمان بن جنى‏.‏

قال قرأت على أبي الطيب قوله‏:‏ وقد صارت الأجفان قرحاً من البكا وصار بهاراً في الخدود الشقائق فقلت‏:‏ قرحى فقال‏:‏ إنما قلت قرحاً لأن قولي بهاراً فهذه المناسبة التي تؤثر في الفصاحة والشعراء الحذاق والكتاب يعتمدونها وكتب بعضهم‏:‏ إذا كنت لا تؤتى من نقص كرم وكنت لا أوتى من ضعف سبب فكيف أخاف كم خيبة أمل أو عدولا عن اغتفار زلل أو فتوراً عن لم شعث واصلاح خلل فناسب‏:‏ بين نقص وضعف وكرم وسبب وعدول وفتور بالصيغ‏.‏

وإلا فقد كان يمكنه أن يقول‏:‏ مكان نقص قلة فلا يكون مناسباً لضعف ومكان كرم جوداً فلا يكون مناسباً لسبب أو مكان سبب شكراً فلا يكون مناسباً لكرم ومكان فتور تقصيراً فلا يكون مهى الوحش إلا أن هاتا أوانس قنا الخط إلا أن تلك ذوابل فناسب بين مهى وقنى والوحش والخط‏.‏

وكذلك قول أبي عبادة‏:‏ فأحجم لما لم يجد فيك مطعماً وأقدم ملا لم يجد عنك مهربا فناسب بين أحجم واقدم ومطمعاً ومهرباً وعنك وفيك‏.‏ وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى‏.‏

ومن المناسبة بين الألفاظ في الصيغ‏:‏ السجع والازدواج ويحد السجع بأنه تماثل الحروف في مقاطع الفصول وبعض الناس يذهب إلى كراهة السجع والازدواج في الكلام وبعضهم يستحسنه ويقصده كثيراً وحجة من يكرهه أنه ربما وقع بتكلف وتعمل واستكراه فأهذب طلاوة الكلام وأزال ماءه وحجة من يختاره أنه مناسبة بين الألفاظ يحسنها ويظهر آثار الصنعة فيها لولا ذلك لم يرد في كلام الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والفصيح من كلام العرب وكما أن الشعر يحسن بتساوي قوافيه كذلك النثر يحسن بتماثل الحروف في فصوله والمذهب الصحيح‏:‏ أن السجع محمود إذا وقع سهلاً متيسراً بلا كلفة ولا مشقة وبحيث يظهر أنه لم يقصد في نفسه ولا أحضره إلا صدق معناه دون موافقة لفظه ولا يكون الكلام الذي قبله إنما يتخيل لأجله ورد ليصير وصلة إليه فإنا متى حمدنا هذا الجنس من السجع كنا قد وافقنا دليل من كرهه وعملنا بموجبه لأنه إنما دل على قبح ما يقع من السجع بتعمل وتكلف‏.‏

ونحن لم نستحسن ذلك النوع ووافقنا أيضاً دليل من اختاره لأنه إنما دل به على حسن ما ورد منه في كتاب الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والفصحاء من العرب‏.‏

وكان يحسن الكلام ويبين آثار الصناعة ويجرى مجرى القوافي المحمودة والذي يكون بهذه الصفات هو الذي حمدناه واخترناه وذكرنا أنه يكون سهلاً غير مستكره ولا متكلف‏.‏

وقد حكى الجاحظ عن بشر بن المعتمر أنه قال في وصيته في البلاغة إذا لم تجد اللفظة واقعة موقعها ولا صائرة إلى مستقرها ولا حالة في مركزها بل وجدتها قلقة في مكانها نافرة من موضعها فلا تكرهها على القرار في غير موطنها فإنك إذا لم تتعاط قريض الشعر الموزون ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد‏.‏

وإذا أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقاً فيهما عابك من أنت أقل عيباً منه وأزرى عليك من أنت فوقه‏.‏

وهذا كلام صحيح يجب أن يقتدى به في هذه الصناعة وأما الفواصل التي في القرآن فإنهم سموها فواصل ولم يسموها أسجاعاً وفرقوا فقالوا‏:‏ إن السجع هو الذي يقصد في نفسه ثم يحمل المعنى عليه والفواصل التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في أنفسها وقال على بن عيسى الرماني‏:‏ إن الفواصل بلاغة والسجع عيب وعلل ذلك بما ذكرناه من أن السجع تتبعه المعاني والفواصل تتبع المعاني وهذا غير صحيح والذي يجب أن يحرر في ذلك أن يقال‏:‏ إن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفصول على ما ذكرناه والفواصل على ضربين ضرب يكون سجعاً وهو ما تماثلت حروفه في المقاطع وضرب لا يكون سجعاً وهو ما تقابلت حروفه في المقاطع ولم تتماثل ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين أعني المتماثل والمتقارب من أن يكون يأتى طوعا سهلا وتابعا للمعاني وبالضد من ذلك حتى يكون متكلفاً يتبعه المعنى فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدال على الفصاحة وحسن البيان وإن كان من الثاني فهو مذموم مرفوض‏.‏

فأما القرآن فلم يرد فيه إلا ما هو من القسم المحمود لعلوه في الفصاحة وقد وردت فواصله متماثلة ومتقاربة فمثال المتماثلة قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور ‏"‏ وقوله عز اسمه ‏"‏ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى ‏"‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ والعاديات ضبحاً فالموريات قدحا فالمغيرات صبحاً فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً ‏"‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ‏"‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ‏"‏ وحذفوا الياء من يسرى والوادي طلبا للموافقة في الفواصل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ‏"‏ وجميع هذه السورة على هذا الازدواج وهذا جائز أن يسمى سجعاً لأن فيه معنى السجع ولا مانع في الشرع يمنع من ذلك‏.‏

ومثال المتقارب في الحروف قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ الرحمن الرحيم ملك يوم الدين ‏"‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب ‏"‏ وهذا لا يسمى سجعاً لأنا قد بينا أن السجع ما كانت حروفه متماثلة‏.‏

فأما قول الرماني‏:‏ أن السجع عيب والفواصل بلاغة على الاطلاق فغلط لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعاً للمعنى وكأنه غير مقصود فذلك بلاغة والفواصل مثله وإن كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف فذلك عيب والفواصل مثله‏.‏

وكما يعرض التكلف في السجع عند طلب تماثل الحروف كذلك يعرض في الفواصل عند طلب تقارب الحروف وأظن أن الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعاً رغبة في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروى عن الكهنة وغيرهم وهذا غرض في التسمية قريب‏.‏

فأما الحقيقة فما ذكرناه لأنه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره من الكلام في كونه مسجوعاً وبين مشاركة جميعه في كونه عرضاً وصوتاً وحروفاً وعربياً ومؤلفاً وهذا مما لا يخفى فيحتاج إلى زيادة في البيان‏.‏

ولا فرق بين الفواصل التي تتماثل حروفها في المقاطع وبين السجع‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إذا كان عندكم أن السجع محمود فهلا ورد القرآن كله مسجوعاً وما الوجه في ورود بعضه مسجوعاً وبعضه غير مسجوع‏.‏

قيل‏:‏ إن القرآن أنزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعاً لما في ذلك من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع لا سيما فيما يطول من الكلام فلم يرد مسجوعاً جرياً به على عرفهم في الطبقة العالية من كلامهم‏.‏

ولم يخل من السجع لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة التي قدمناها وعليها ورد في فصيح كلامهم فلم يجز أن يكون عالياً في الفصاحة وقد أخل فيه بشرط من شروطهاً فهذا هو السبب في ورود القرآن مسجوعاً وغير مسجوع والله أعلم‏.‏

ومن الكتاب المحدثين من كان يستعمل السجع كثيراً ولا يكاد يخل به وهو‏:‏ أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي وأبو الفرج المعروف بالببغاء ومنهم من كان يتركه ويتجنبه وهو‏:‏ أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد وطريقة غير هؤلاء استعمله مرة ورفضه أخرى بحسب ما يوجد من السهولة والتيسير أو الإكراه والتكلف فأما عبد الحميد بن يحيى وعبد الله بن المقفع وأبو الربيع محمد بن الليث وجعفر بن يحيى بن خالد وإبراهيم بن العباس وسعيد بن حميد وأبو عثمان الجاحظ وأبو علي البصير وأحمد بن يوسف وإسماعيل بن صبيح ومحمد بن غالب ومحمد بن عبد الله الأصفهاني وابن ثوابه وأبو الحسين أحمد بن سعد وأبو مسلم محمد بن بحر وأشباههم‏.‏

فإن السجع فيما وقفت عليه من كلامهم قليل لكنهم لا يكادون يخلون بالمناسبة بين الألفاظ في الفصول والمقاطع إلا في اليسير من المواضع‏.‏

وأما قول أبى الحسين بن سعد في بعض رسائله‏:‏ وقد عرفت القدر فيما تراخى من كتبك وأبطأ عني من برك ورجعت فيما اتفق من حال الجفاء في هذه الوهلة إلى ما عرفت صحته من العهد وخلوصه من الود فلم أجد لسوء الظن مساغاً ولا لظاهر الإعراض قبولاً لأنك الأخ المبلوة أخباره المتكافئة في الجميل أفعاله غير أن النفس تستوحش لما ينكر من حيث عرفت وتذم من حيث حمدت ويتضاعف عليها ألاسف للجفاء إذا وقع من معدن البر والارتياب إذا كان رديفاً للثقة وأرجو أن أكون من تلون الزمان فيك على أمن ومن وفائه بعهد مودتك على أقوى أمل‏.‏

فان في هذا الكلام تركا للمناسبة بين الألفاظ‏:‏ لأن قبولا ليس على وزن مساغ وتستوحش ليس بأزائها كلمة لأنه كان ينبغي أن يقال‏:‏ تستوحش لما يستنكر من حيث عرفت وتنفر مما تذم من حيث حمدت أو غير يستنكر من الألفاظ التي تكون مناسبة لتستوحش وكذلك البر لا يناسب الثقة في الصيغة وأمن ليس على وزن أمل وهذا ليس بعيب فاحش وإنما هو ترك للأفضل والأولى من اعتماد المناسبة‏.‏

وحدثني أبو القاسم زيد بن علي الفارسي قال حدثنا أبو عبيد نعيم بن مسعود الهروى قال حدثنا أبو القاسم يحيى بن القاسم القصباني قال حدثنا دعلج بن أحمد بن دعلج قال حدثنا على بن عبد العزيز البغوي قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن غير واحد من رجاله عن أبي نعامة عمرو بن عيسى العدوى عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة‏.‏

فقال‏:‏ مأمورة لأجل المناسبة والمستعمل مومرة أي كثيرة النتاج كما قرئ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها أي كثرنا‏.‏

وحدثني زيد بن على بهذا الاسناد عن أبي عبيد القاسم بن سلام عن يزيد بن سفيان عن منصور عن المنهال بن عمور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

أنه كان يعود الحسن والحسين عليهما السلام فيقول‏:‏ أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة‏.‏

ولم يقل ملمة لأجل المناسبة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الحديث ترجعن مأزورات غير مأجورات لأن مأزورات من الوزر والمتسعمل موزورات فجاء به هكذا لأجل المناسبة والسجع الواقع موقعه كثير لمن طلبه ومنه قول أبى الفرج عبد الواحد بن نصر الببغا في أول رسالة له‏:‏ إذا كانت حقيقة الشكر أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة في متعالم العرف والعادة إنما هي علة موضوعى لاستجلاب الزيادة فقد لزم بدليل العقل وحجة الفضل أن يسمى الشاكر مستزيداً لا مكافياً ومستديماً لا مجازيا وتبقى النعمة مطالبة بواجبها والمنة مقتضية عن صاحبها وقوله في فصل آخر‏:‏ وعلمي بأن أقرب مؤمليه إليه وأوجبهم حرمة عليه أشدهم استزادة لنعمه وأكثرهم إلحاحاً على كرمه بعثني على التقرب إلى قلبه بالسؤال ومناجاة كرمه بلسان الآمال فسألت متقربا وطلبت متسحباً وبلغ على بن الحسن عليه السلام قول نافع بن جبير في معاوية‏:‏ كان يسكته الحلم وينطقه العلم فقال‏:‏ بل كان يسكته الحصر وينطقه البطر ووقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية المازني فقال‏:‏ رحمك الله أبا المورق كنت لا تحقر ضعيفاً ولا تحسد شريفاً‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتباراً‏.‏

وقال أبو إسحاق الصابي في بعض كتبه‏:‏ وييسر له الفتوح شرقاً وغرباً ويمكنه من نواصي أعدائه سلماً وحرباً ويجعله في أحواله كلها سعيداً مخظوظاً وبعين رعايته ملحوظاً محفوظا ولا يخليه من مزيد تتوافر مادته إليه وإحسان لله يتظاهر لديه ويصل ما منحه بنظائر تتلوه وتتبعه‏.‏

وأمثال تقفوه وتشفعه ومن كتاب له آخر‏:‏ وصل كتاب مولانا الأمير الجليل عضد الدولة جواباً وفهمته‏.‏

وما اقترن به ثواباً وقبضته ووقع منى موقع الماء من ذي الغلة والشفاء من ذي العلة وأعظمت قدر ما اختصنى به من عنايته وأبانه في من رعايته وجعلت ذلك جنة بيني وبين الزمان وأثرة لي على الأضراب والأقران وشكرت أنعامه مجتهداً محتفلاً وادرعته مفتخراً متجملا‏.‏

وهذا كله سجع يتبع المعاني غير متكلف ولا وقد سمى قدامة بن جعفر ترك المناسبة في مقاطع الفصول‏:‏ التجميع ومثل ذلك بقول سعيد بن حميد في أول كتاب له‏:‏ وصل كتابك فوصل به ما يستعبد الحر وإن كان قديم العبودية ويستغرق الشكر وإن كان سالف فضلك لم يبق شيئاً منه لأن المقطع على العبودية منافر للمقطع على منه‏.‏

فهذا هو مثال ما تترك به المناسبة مع قدمناه ومثال الأسجاع التي تكون غير متكلفة قد ذكرناه فأما إذا تكلفت واعتمدت وكانت المعاني تابعة لها فليس ذلك بمرضي‏.‏

ومما يجب اعتماده في هذا ألا تجعل الرسالة كلها مسجوعة على حرف واحد لأن ذلك يقع تعرضاً للتكرار وميلا إلى التكلف وقد استعمل ذلك في الخطب وغيرها من المنثور وهو يقبح في المكاتبات خاصة‏.‏

فأنا القوافي في الشعر فإنها تجري مجرى السجع وأن المختار منها ما كان متمكناً يدل الكلام عليه وإذا أنشد صدر البيت عرفت قافتيه كما قال ابن نباته في وصف قصيدته‏:‏ خذها إذا أنشدت للقوم من طرب صدورها علمت منها قوافيها وقد قدمنا لذلك أمثلة وبينا ما يكون من القوافي حشواً في باب الحشو‏.‏

وقد صنف العلماء في باب القوافي كتباً بينوا فيها ما تجب إعادته من الحروف والحركات وما لا تجب إعادته ووضعوا لتلك الحروف والحركات أسماء لا حاجة بنا إلى ذكر شئ من ذلك لأنه هناك مستوفى مستقصى وليس مما نحن بسبيله وقد التزم بعض الشعرآء في القوافي إعادة ما لا يلزمه إعادته طلباً للزيادة في التناسب والاغراق في التماثل كقول الحطيئة‏:‏ ألا من لقلب عارم النظرات يقطع طول الليل بالزفرات إذا ما الثريا آخر الليل اعنقت كواكبها كالجزع منحدرات فالتزم الرآء في جميعها قبل حرف الروى وهي غير لازمة وكقول حسان‏:‏ بكل كميت جوزه نصف خلقه وقب طوال مشرفات الحوارك فالتزم الرآء التي تسميها أصحاب القوافي الدخيل بين ألف التأسيس وحرف الروى وكان شيخنا يذهب إلى أن قصيدة كثير التي أولها‏:‏ خليلي هذا ربع عزة فاعقلا قلوصيكما ثم أبكيا حيث حلت قد لزم اللام في جميعهاً فلما سألناه عن البيت الذي يروى فيها وهو‏:‏ أصاب الردى من كان يهوى لك الردى وجن اللواتي قلن عزة جنت قال‏:‏ هذا البيت ليس من القصيدة وأما أبو عبادة البحتري فإنه التزم الدال في قصيدته التائية التي مدح فيها المهتدي بالله وفيها يقول‏:‏ أسفت لأقوام ملكت بعيدهم وكانت دجت أيامهم واسوأدت ولم يعلموا أن المكارم أبديت جداعا ولا أن المظالم ردت وكان علي بن العباس الرومي‏:‏ يلتزم هذا كثيراً وهو موجود في شعره ونظم أبو العلاء أحمد بن عبيد الله بن سليمان شعره - المعروف بلزوم ما لا يلزم - على هذه الطريقة وكذلك أكثر كلامه المنثور سلك فيه هذا المنهج وليس يغتفر للشاعر إذا نظم على هذا الفن لأجل ما الزم نفسه ما لا يلزمه شئ من عيوب القوافي لأنه إنما فعل ذلك طوعا واختيارا من غير الجاء ولا إكراه‏.‏

ونحن نريد الكلام الحسن على أسهل الطرق واقرب السبل وليس بنا حاجة إلى المتكلف المطرح وإن ادعي علينا قائلة أن مشقة نالته وتعباً مر به في نظمه وورود القوافي متمكنة في الأشعار المختارة موجود ومنه قول أبي عبادة‏:‏ أخيال علوة كيف زرت وعندنا أرق يشرد بالخيال الزائر طيف ألم لها ونحن بمهمه قفر يشق على الملم الخاطر أفضى إلى شعث تطير كراهم روحات قود كالقسى ضوامر حتى إذا نزعوا الدجي وتسربلوا من فضل هلهلة الصباح النائر ورنوا إلى شعب الرحال بأعين يكسرن من نظر النعاس القاتر أهوى فأسعف بالتحية خلسة والشمس تلمع في جناحى طائر وقول أبي الطيب المتنبي‏:‏ يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شئ بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا فما الجرح إذا أرضاكم ألم وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة إن المعارف في أهل النهى ذمم وقول أبى العلاء بن سليمان فيما قرأته عليه‏:‏ ردى كلامك ما أمللت مستمعاً ومن يمل من الأنفاس ترديدا باتت عرى النوم عن جفنى محللة وبات كورى على الوجناء مشدودا وقوله أيضاً‏:‏ لاقاك في العام الذي ولى فلم يسألك إلا قبلة في القابل إن االبخيل إذا يمد له المدى في الجود هان عليه وعد السائل وأمثال هذا أكثر من أن تحصى‏.‏

ومما يجب أن يعتمد في القافية أن لا تكون الكلمة إذا سكت عليها كانت محتملة لمعنى يقتضي خلاف ما وضع الشعر له مثل أن يكون مديحاً فيقتضى بالسكوت عليها وقطع الكلام بها وجهاً من الذم أو معنى يتطير منه الممدوح أو ما يجرى هذا المجرى كما حكى أن الصاحب إسماعيل ضممت على أبناء تغلب تائها فتغلب ماكر الجديد أن تغلب فتطير عضد الدولة من مواجهته إياه بتغلب وقال‏:‏ يكفى الله ذلك ولو قال في وسط البيت تغلب وتغلب لم يكن في ذلك من القبح ما يكون في القافية لأنها موضع قطع وسكوت ووقوف على ما مضى واستئناف لما يأتى‏.‏

وروى أن أبا الطيب لما أنشد قصيدته التي ودع بها عضد الدولة فقال فيها‏:‏ وأيا شئت يا طرقي فكوني أذاة أو نجاة أو هلاكا قال عضد الدولة‏:‏ يوشك أن يصاب في طريقه وكانت منيته فيه‏.‏

وقال أبو الفتح عثمان بن جنى‏:‏ جعل القافية هلاكا فهلك‏.‏

ومن هذا الجنس أيضاً الابتداء في القصائد فإنه يحتاج إلى تحرز فيه حتى لا يستفتح بلفظ محتمل أو كلام يتطير منه وقد روى أن ذا الرمة أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته البائية فلما ابتدأ وقال‏:‏ ما بال عينك منها الماء ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب قال هشام‏:‏ بل عينك وقد كان أبو الطيب افتتح قصيدته التي مدح فيها عضد الدولة بقوله‏:‏ أوه بديل من قولتي واها لمن نأت والحديث ذكراها لا تقل بشرى ولكن بشريان غرة الداعي ويوم المهرجان فبطحه وضربه خمسين عصاً وقال‏:‏ اصلاح أدبه أبلغ في ثوابه وكان شيخنا يعيب قول أبي الطيب‏:‏ إذا ما لبست الدهر مستمعاً به تخرقت والملبوس لم يتخرق ويقول‏:‏ إذا طولب الشاعر بحسن الأدب وجب أن لا يقابل الممدوح بمثل هذا الكلام وقد أنكر عبد الملك بن مروان على جرير ما هو دون هذا من القول وذلك أنه لما أنشده‏:‏ أتصحو أم فؤادك غير صاح فقال له عبد الملك‏:‏ بل فؤادك ويروى أن أبا نواس لما أنشد الفضل بن يحيى قصيدته‏:‏ أربع البلى أن الخشوع لبادى عليك وإني لم أخنك ودادي تطير الفضل من هذا الابتداء فلما انتهى إلى قوله في القصيدة‏:‏ سلام على الدنيا إذا ما فقدتم بنى برمك من رائحين وغاد استحكم تطيره فلم يمض إلا أسبوع حتى نكب بنوبرمث وقتل جعفر بن يحيى وبعض الناس يروى أن أبا عبادة أنشد يوسف بن محمد ابن يوسف الثغرى قوله‏:‏ لك الويل من ليل تطاول آخره ووشك نوى حي تزم أباعره ومن القوافي التي جاءت حشواً لأجل حرف الروى من غير معنى يختص به قول أبى عدى القرشي‏:‏ ووقيت الحتوف من وارث وال وأبقاك صالحاً رب هود فليس في تسمية الباري تبارك وتعالى‏:‏ رب هود معنى ولا وجه لذلك إلا أن القصيدة دالية وإلا فهو تعالى رب نوح وهود وكل أحد وهذا كثير في الأشعار الضعيفة‏.‏

ومن تناسب القوافي‏:‏ تجنب الإقواء فيها وهو اختلاف إعرابها فيكون بعضها مثلاً مرفوعاً وبعضها مجروراً وهذا يوجد في أشعار العرب‏.‏

وقد روى أن الناغبة كان يقوى حتى دخل المدينة وسمع أهلها يغنون بقوله في قصيدته التي أولها‏.‏

من آل مية رائح أو مغتدى عجلان ذازاد وغير مزود زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود ففطن للإقواء فتركه‏.‏

والأيطاء في القوافي عيب وهو أن تتفق القافتيان في قصيدة واحدة وأمثال ذلك كثيرة فأما أن يكون معنى القافيتين مختلفاً ولفظهما واحداً فذلك ليس بعيب مثل أن تأتي العين ويراد بها الجارحة والعين ويراد بها الذهب وإذا بعد ما بين القافيتين المتكررتين في القصيدة كان أصلح وإن كان الإيطاء عيباً على كل حال‏.‏

ففاجأها لاقت جموعاً على أبواب حصن مصلتينا فقدمت الأديم لراهشيه والفى قولها كذباً وميناً فالميم من ميناً مفتوحة والتاء من مصلتينا مكسورة والسناد من قولهم خرج بنو فلان برأسين متساندين أي كل واحد منهما على حياله وكذلك قالوا كانت قريش يوم الفجار متساندين أي لا يقودهم رجل واحد‏.‏

ومن عيوب القوافي‏:‏ أن يتم البيت ولا تتم الكلمة التي منها القافية حتى يكون تمامها في البيت الثاني مثل أبيات كتبها إلى الشيخ أبو العلاء بن سليمان في بعض كتبه وحكى أن أبا العباس المبرد ذكرها في كتابه الموضوع في القوافي وسمى هذا الجنس من عيوب القافيه المجاز والأبيات‏:‏ شبيه بابن يعقوب ولكن لم يكن يو سف يشرب الخمر ولا يزني ولا يو سع بالامواه القهوة مزجا لم يكن دو ن في صبح وامسآء وهذا منكر يو شك الرحمن أن يصليه في نار خزى هو لها أهل فلا يكشف عنه ربنا السو قد النار لأضياف لوو قيل له ذو دنانير وأموال فيارحمن لا تو سع الرزق على هذا الذي منظره لو لو والفعل ستوق فوزن الريش لا يو وقطع الكلام على يو‏.‏

ومما يجرى هذا المجرى التضمين‏:‏ وهو أن لا تستقل الكلمة التي هي القافية بالمعنى حتى تكون موصولة بما في أول البيت الثاني وذلك مثل قول النابغة الذبياني‏:‏ وهم وردوا الجفار على تميم وهم أصحاب يوم عكاظ أنى شهدت لهم مواطن صادقات أتيتهم بنصح الود منى ومن عيوب القوافي في ترك التناسب‏:‏ أن يكون الروى على حرفين متقاربين كما قال بعض العرب‏:‏ بنى إن البر شئ هين المنطق اللين والطعيم وهذا من الشاذ النادر الذي لا يلتفت إليه‏.‏

ومن عيوب القوافي‏:‏ أن تكون قافية المصراع الأول من البيت الأول على روى ينبئ أن تكون تذكرت ليلى لات حين ادكارها وقد حنى الأضلاع بتضلال فلما قال‏:‏ ادكارها أو هم أن الروى حرف الراء بوصل وخروج وردف قبله ثم جاء بالقافية على اللام كذلك قول الشماخ‏:‏ لمن منزل عاف ورسم منازل عفت بعد عهد العاهدين رياضها وقد سمى هذا الفن‏:‏ التجيع وهو على كل حال من أسهل عيوب القوافي وأقربها إلى الجواز والصحة‏.‏

وأما التصريع فيجرى مجرى القافية وليس الفرق بينهما الد أنه في آخر النصف الأول من البيت والقافية في آخر النصف الثاني منه وإنما شبه مع القافية بمصراعي الباب وقد استعلمه المتقدمون والمحدثون في أول القصيدة وربما استعملوه في أثنائها وممن كان يلهج به من المتقدمين امرؤ القيس فإنه صرع في أول قصيدته‏:‏ قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ثم قال من بعد‏:‏ ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى بصبح وما الإصباح فيك بأمثل وقال فيها‏:‏ وقال في التي أولها‏:‏ ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي ديار لسلمى عافيات بذى الخال ألح عليها كل أسحم هطال ألا أنني بال على جمل بال يقود بنا بال ويتبعنا بال وكذلك اعتمد جماعة من الشعراء في بعض قصائدهم والذي أراه أن التصريع يحسن في أول القصيدة ليميز بين الابتداء وغيره ويفهم قبل تمام البيت روى القصيدة وقافيتها ولذلك قال أبو تمام‏:‏ وإنما يروقك بيت الشعر حين يصرع فأما إذا تكرر الصريع في القصيدة فلست أراه مختاراً وهو عندي يجرى مجرى تكرر الترصيع والتجنيس والطباق وغير ذلك مما سيأتي ذكره وأن هذه الأشياء إنما يحسن منها ما قل وجرى منها مجرى اللمعة واللمحة فأما إذا تواتر وتكرر فليس عندي ذلك مرضياً فإن قال لنا قائل‏:‏ كيف يكون التصريع وغيره من الأصناف التي أشرتم إليها حسناً إذا قل وإن كثر لم يكن حسناً قيل له‏:‏ هذا غير مستنكر ولا مستطرف وله أشباه كثيرة فإن الخال يحسن في بعض الوجوه ولو كان في ذلك الوجه عدة خيلان لكان قبيحان ويكون في بعض النقوش يسير من سواد أو حمرة أو غيرهما من الألوان فيحسن ذلك المزاج والنقش بذلك القدر من اللون فإن زاد لم يكن حسناً وتستحسن غرة الفرس وهي قدر مخصوص فإن كان وجهه كله أبيض أو زاد ذلك القدر من البياض لم يحسن وأشباه هذا أكثر من أن يحصى والعلة فيه أنه إنما كان حسناً بالإضافة إلى غيره وقد ترك التصريع جماعة من الشعراء المتقدمين والمحدثين في أول القصيدة كما ابتدأ ابن أحمر قصيدته فقال‏:‏ قد بكرت عاذلتي بكرة تزعم أني بالصبا مشتهر فلم يصرع ثم قال من بعده‏:‏ بل ودعيني طفل أنى بكر فقددنا الصبح فما انتظر وربما أخل الشارع بالتصريع في جميع القصيدة‏.‏

ومن التناسب أيضاً‏:‏ الترصيع وهو أن يعتمد تصيير مقاطع الأجزاء في البيت المنظوم أو الفصل من الكلام المنثور مسجوعة وكأن ذلك شبه بترصيع الجوهر في الحلى وهذا مما قلنا أنه لا يحسن إذا تكرر وتوالى لأنه يدل على التكلف وشدة التصنع وإنما يحسن إذا وقع قليلاً غير نافر‏.‏

ومن أمثلة ذلك في النثر قول أبي على البصير في بعض كلامه‏:‏ حتى عاد تعريضك تصريحاً وتمريضك تصحيحاً‏.‏

وقالت الخنساء‏:‏ جواب قاصية جزار ناصية عقاد ألوية للخيل جرار وقال امرؤ القيس‏:‏ فتور القيام قطيع الكلام تفتر عن ذى غروب خصر وقال بشامة بن عمرو بن الغدير‏:‏ هوان الحياة وخزى الممات وكلا أراه طعاماً وبيلا وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله‏:‏ ألفت الملا حتى تعلمت بالفلا رنو الطلى أو صنعة الآل في الخدع فهذا وأمثاله إذا كان قدراً يسيراً حسن على ما ذكرناه فأما إذا توالى وكثر فإنه يقبح لدلالته على التكلف وإن كان كل منه بانفراده جيداً وذلك مثل قول أبي صخر الهزلي‏:‏ عذب مقبلها جدل مخلخلها كالدعص أسفلها مخصورة القدم سود ذوائبها بيض ترائبها محض ضرائبها صيغت على الكرم عبل مقيدها حال مقلدها بض مجردها لفاء في عمم سمح خلائقها درم مرافقها يروى معانقها من بارد شبم فهذا لما توالى لم يحسن والعلة في ذلك ما ذكرناه‏.‏

ومن التناسب أيضاً‏:‏ حمل اللفظ على اللفظ في الترتيب ليكون ما يرجع إلى المقدم مقدماً وإلى المؤخر مؤخراً ومثال ذلك قول الشريف الرضى‏:‏ قلبي وطرفى منك هذا في حمى قيظ وهذا في رياض ربيع فإنه لما قدم قلبي وجب أن يقدم وصفه بأنه في حمى قيظ فلو كان قال‏:‏ طرفي وقلبي منك لم يحسن في الترتيب أن يؤخر قوله في رياض ربيع والطرف مقدم وكذلك أيضاً قول الآخر‏:‏ فاللامعات أسنة وأسرة والمائسات ذوابل وقدود لأن القدود لما كانت مؤخرة وجب أن تكون الأسرة كذلك وأن يقدم الأسنة كما قدمت الذوابل وأمثال هذا كثيرة‏.‏

ومن المناسبة أيضاً‏:‏ التناسب في المقدار وهذا في الشعر محفوظ بالوزن فلا يمكن اختلاف الأبيات في الطول والقصر فإن زاحف بعض الأبيات أو جعل الشعر كله مزاحفاً حتى مال إلى الانكسار وخرج من باب الشعر في الذوق كان قبيحاً ناقص الطلاوة كقصيدة عبيد بن الأبرص‏:‏ أقفر من أهله ملحوب وكقوله ابن يعفر‏:‏ إنا ذممنا على ما خيلت سع د بن زيد وعمراً من تميم ونحن قوم لنا رماح وثروة من موال وصميم فإن هذا غير مستحسن لأنه خارج عن أسلوب المنظوم والمنثور وإن كان في العروض مستقيماً وكان الخليل بن أحمد يستحسن بعض الزحاف في الشعر إذا قل وإذا كثر قبح عنده‏.‏

وقال بعض الأدباء‏:‏ هو مثل اللثغ في الجارية يشتهى القليل منه وإن كثر هجن وسمج‏.‏

فأما الكلام المنثور فالأحسن منه تساوى الفصول في مقاديرها أو يكون الفصل الثاني أطول من الأول‏.‏

وعلى هذا أجمع الكتاب وقالوا لا يجوز أن يكون الفصل الثاني أقصر من الأول والذوق يشهد بما قالوه ويقضى بصحته ولهذا السبب استقبحوا إطالة الفصول لئلا يؤتى بالجزء الأول طويلاً فيحتاج إلى إطالة التالي له ليساويه أو يزيد عليه فيظهر في الكلام التكلف ويقع ما لا حاجة لمعنى والغرض إليه‏.‏

ومن التناسب بين الألفاظ‏:‏ المجانس وهو أن يكون بعض الألفاظ مشتقاً من بعض إن كان معناهما واحداً أو بمنزلة المشتق إن كان معناهما مختلفان أو تتوافق صيغتا اللفظتين مع اختلاف المعنى وهذا إنما يحسن في بعض المواضع إذا كان قليلاً غير متكلف ولا مقصود في نفسه وقد استعمله العرب المتقدمون في أشعارهم ثم جاء المحدثون فلهج به منهم مسلم بن الوليد الأنصاري وأكثر منه ومن استعمال المطابق والمخالف وهذه الفنون المذكورة في صناعة الشعر حتى قيل عنه أنه أول من أفسد الشعر‏.‏

وجاء أبو تمام حبيب بن أوس بعده فزاد على مسلم في استعماله والاكثار منه حتى وقع له الجيد والردئ الذي لا غاية وراءه في القبح فمما للعرب قول امرئ القيس‏:‏ لقد طمح الطماح من بعد أرضه ليلبسنى من دائه ما تلبسا وقول القطامي‏:‏ كنية الحي من ذي القيظة احتملوا مستحقبين فؤاداً ماله فاد وقول جرير بن عطية‏:‏ وما زال معقولاً عقال عن الندى وما زال محبوساً عن الخير حابس وقول حبان بن ربيعة الطائي‏:‏ لقد علم القبائل أن قومي لهم حد إذا لبس الحديد وقول النعمان بن بشير‏:‏ ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا وليلك عما ناب قومك نائم وقال رجل من بني عيسى‏:‏ وذلكم أن ذل الجار حالفكم وأن أنفكم لا يعرف الأنفا وأقطع الخرق بالخرقاء لاهية إذا الكواكب كانت في الدجا سرجا وقول زياد الأعجم‏:‏ ونبئتهم يستنصرون بكاهل وللؤم فيهم كاهل وسنام وبعض البغداديين يسمى تساوى اللفظتين في الصفة مع اختلاف المعنى‏:‏ المماثل ككاهل وكاهل في هذا البيت وهو جل وهو جل في قول قول الأفواه الأودى‏:‏ وأقطع الهوجل مستأنساً بهوجل عيرانة عنتريس لأن لفظة الهوجل واحدة والمراد بالأولى الأرض البعيدة وبالثانية الناقة العظيمة الخلق ويسمى المجانس ما توافقت فيه اللفظتان بعض الاتفاق وأبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب يسمى هذا الفن الجنس ويسمى المطابق المتكافئ وقد أنكر عليه ذلك أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدى‏.‏

وقال إن هذا البيت وإن صح بموافقته معنى الألقاب وإنها غير محظورة فإن الناس قد تقدموا أبا الفرج في تلقيب هذا الأنواع مثل أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله وغيره وكفوه المؤنة في اختراع ألقاب تخالفهم والصواب ما قاله أبو القاسم‏.‏

ومن مجانس أبي تمام المختار قوله‏:‏ يمدون من أيد عواص عواصم تطول بأسياف قواض قواضب أرامة كنت مألف كل رئم لو استمتعت بالأنس المقيم وقوله‏:‏ فيا دمع أنجدني على ساكني نجد ومن قبيح تجنيه قوله‏:‏ قرت بقران عين الدين وانشترت بالأشترين عيون الشرك فاصطلما وقوله‏:‏ خشنت عليه أخت بني خشين وقوله‏:‏ فأسلم من الآفات ما سلمت سلام سلمى ومهما أورق السلم وقوله‏:‏ سلم على الربع من سلمى بذي سلم وقوله‏:‏ تجرع أسى قد أقفر الأجرع الفرد وله من هذا الجنس أبيات كثير والسبب في ذلك أنه أحب الاكثار ولم يقنع باليسير الذي يسمح به خاطره ويقع بغير تكلف ولا تعمل‏.‏

ومما ورد في القرآن العظيم من هذا الفن قوله تبارك وتعالى ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وقوهل تبارك وتعالى ‏"‏ يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ‏"‏ ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عصية عصت الله وغفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله ‏"‏ وقال خالد ابن صفوان لرجل من بني عبد الدار‏:‏ هشمتك هاشم وأمتك أمية وخزمتك مخزوم فأنت ابن عبد دارها ومنتهى عارها‏.‏

وكتب بعض الكتاب‏:‏ العذر مع التعذر واجب فرأيك فيه وقال آخر‏:‏ لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطاً‏.‏

وقال العلاء بن سليمان‏:‏ والحسن يظهر في شيئين رونقه بيت من الشعر أو بيت من الشعر وقال مهيار بن مرزويه‏:‏ وإذا عددت سنى لم أك صاعداً عدد الأنابيب التي في صعدتي وألام فيك شبت على الصبا يا جور لأئمتي عليك ولمتي وقال أبو العلاء بن سليمان‏:‏ إن جهلاً سلمى لآل سليمى وثنائي على عذاب الثنايا ورأيتني فرأيت أحسن منظر رب القصائد في القنا المتقصد وقال أيضاً‏:‏ ومذهب حب لم أجد عنه مذهباً وشاغل حب لم أجد عنه شاغلا وقال‏:‏ هل لما فات من تلاق تلاف أو لشاك من الصبابة شاف وقد سمى قدامة بن جعفر هذا الفن من المجانس في تلاق وتلاف المضارعة إذا كانت إحدى اللفظتين تماثل الأخرى بأكثر الحروف ولا تشابهها في الجميع ومثل ذلك بقول نوفل بن مساحق للوليد وقد اعتد عليه بالأذن له على نفسه وهو يلعب بالحمام‏.‏

وقال‏:‏ خصصتك بهذه المنزلة فقال له نوفل‏:‏ ما خصصتني ولكن خسستني لأنك كشفت لي عورة من عوراتك‏.‏

وأمثال هذا كثير‏.‏

والمحمود منه ما قل ووقع تابعاً للمعنى غير مقصود في نفسه‏.‏

ومن المجانس‏:‏ فن ورد في شعر أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان وسماه لنا مجانس التركيب لأنه يركب من الكلمتين ما يتجانس به الصيغتان كقوله‏:‏ مطايا مطايا وجدكن منازل منازل عنها ليس عني بمقلع وما أحفظ لأحد من الشعراء شيئاً من قبيله وهو عندي غير حسن ولا مختار ولاداخل في فأما مجانس التصحيف فقد ورد في شعر أب عبادة كقوله‏:‏ ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ليعجز والمعتز بالله طالبه وكقوله‏:‏ وكأن السليل والنثرة الحصدا ء منه على سليل عريق وهذا أول طبقات المجانس لأنه مبنى على تجانس أشكال الحروف في الخط وحسن الكلام وقبحه لا يستفاد من أشكال حروفه في الكتابة إذ لا علقة بين صيغة اللفظ في الحروف وشكله في الخط‏.‏

فأما تناسب الألفاظ من طريق المعنى فإنها تتناسب على وجهين أحدهما أن يكون معنى اللفظتين متقارباً والثاني أن يكون أحد المعنيين مضاداً للآخر أو قريباً من المضاد فأما إذا خرجت الألفاظ عن هذين القسمين فليست بمناسبة وقد سمى أصحاب صناعة الشعر المتضاد من معانى الألفاظ المطابق وسماه أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب المتكافيء وأنكر ذلك عليه أبو القاسم الحسن بن بشر على ما حكيناه في المجانس‏.‏

وحكى أبو علي محمد بن المظفر الحاتمي عن أبي الفرج على بن الحسين الأصفهاني‏.‏

قال‏:‏ قلت لأبي الحسن على بن سليمان الأخفش أجد قوماً يخالفون في الطباق فطائفة تزعم وهي الأكثر‏:‏ أنه ذكر الشئ وطائفة تخالف في ذلك وتقول‏:‏ هو اشتراك المعنيين في لفظ واحد فقال‏:‏ من هو الذي يقول هذا فقلت قدامة فقال هذا يا بني هو التجنيس ومن زعم أنه طباق فقد ادعى خلافاً على الخليل والأصمعي فاتفق الأخفش والآمدى على مخالفة أبي الفرج في التسمية وسمى أصحاب صناعة الشعر ما كان قريباً من التضاد المخالف وقسم بعضهم التضاد فسمى ما كان فيهما لفظتان معناهما ضدان كالسواد والبياض المطابق وسمى تقابل المعاني والتوفيق بين بعضها وبعض حتى تأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف على الصحة‏:‏ المقابلة‏.‏

وسمى ما كان فيه سلب وإيجاب‏:‏ بالسلب والإيجاب ولم يجعله من المطابق ولكل من ذلك أمثلة سنذكرها ونوضحها فأما التسمية فلا حاجة بنا إلى المنازعة فيها لأن الغرض فهم هذه المناسبة دون الكلام في أحق الأسماء بها على أن الذي أختاره تسمية الجميع بالمطابق لأن الطبق للشئ إنما قيل له طبق لمساواته إياه في المقدار إذا جعل عليه أو غطى به وإن اختلف الجنسان وفي المثل وافق شن طبقه ومنه طباق الخيل‏.‏

يقال‏:‏ تطابق الفرس إذا وقعت رجلاه في موضع يديه في المشي والعدو وكذلك الكلاب‏.‏

قال النابغة الجعدي‏:‏ وخيل يطابقن بالدار عين طباق الكلاب يطأن الهراسا وقد فسر قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ لتركبن طبقاً عن طبق ‏"‏ أي حالاً بعد حال ولم يرد تساويهما في نفس المعنى وإنما أراد تساويهما في المرور عليكم والتعيير لكم فإذا كان هذا حقيقة الطباق وهو مقابلة الشئ بمثله الذي هو على قدره سمو المتضادين إذا تقابلا متطابقين وهذا الباب يجرى مجرى المجانس ولا يستحسن مه إلا ما قل ووقع غير مقصود ولا متكلف فإما إذا كان معنياً الكلمتين غير متناسبين لا على التقارب ولا على التضاد فإن ذلك يقبح ومنه ما أنكره نصيب على الكميت في قوله‏:‏ أم هل ظعائن بالعلياء نافعة وإن تكامل فيها الدال والشنب فإنه قال له‏:‏ أين الدل من الشنب إنما يكون الدل مع الغنج ونحوه والشنب مع اللعس أو ما يجري مجراه من أوصاف الثغر والفم‏.‏

فكان الدل والشنب في قول الكميت عيباً لأنهما لفظتان لا يتناسبان بتقارب معنيهما ولا بتضادهما‏.‏

ومما يستحسن من المطابق قول أبي عبادة البحتري‏:‏ فأراك جهل الشوق بين معالم منها وجد الدمع بين ملاعب وهذه هي ديباجة أبي عبادة المعروفة وكلامه السهل الممتنع وشعره الخضل لكثرة مائه وقول أبي الطيب‏:‏ أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثنى وبياض الصبح يغرى بي فهذا البيت مع بعده من التكلف كل لفظة من ألفاظه مقابلة بلفظة هي لها من طريق المعنى بمنزلة الضد‏:‏ فأزورهم وأنثنى وسواد وبياض والليل والصبح ويشفع ويغرى ولي وبي وأصحاب صناعة الشعر لا يجعلون الليل والصبح ضدين بل يجعلون ضد الليل النهار لأنهم يراعون في المضادة استعمال الألفاظ وأكثر ما يقال الليل والنهار ولا يقال الليل والصبح وبعضهم يقول في مثل هذا‏:‏ مطابق محض ومطابق غير محض فالليل والصبح عنده من بيت المتنبي طباق غير محض ومن المطابق المحض قول دعبل بن علي‏:‏ لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى ولو قال‏:‏ تبسم وبكا لم يكن عندهم من المطابق المحض‏.‏

ومن المطابق قول بعضهم‏:‏ كدر الجماعة خير من صفو الفرقة فكدر وصفو والجماعة والفرقة من الطباق المحض وقال محمد بن عمران التيمي‏:‏ ما اجمد في الحق ولا أذوب في الباطل‏.‏

وقال عمر بن الخطاب‏:‏ ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه‏.‏

وقال زهير‏:‏ ليث يعثر يصطاد الرجال إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا وقال طفيل الغنوى‏:‏ بساهم الوجه لم تقطع أباجله يصان وهو ليوم الروع مبذول وقال حبيب بن أوس‏:‏ وقال جرير بن عطية‏:‏ وباسط خير فيكم بيمينه وقابض شر عنكم بشماليا وقال عبد الله بن الزبير الأسدي‏:‏ فرد شعورهن السود بيضاً ورد وجوههن البيض سودا وقال الفرزدق‏:‏ لعن الإله بني كليب أنهم لا يغدرون ولا يفون لجار يستقظون إلى نهاق خميرهم وتنام أعينهم عن الأوتار وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان فيا قرأنا عليه‏:‏ ومن دونها يوم من الشمس عاطل وليل بأطراف الأسنة حال وقال بشار بن برد‏:‏ إذا أيقظتك حروب العدا فنبه لها عمراً ثم نم وهذا كله من المطابق المختار فأما المتكلف القبيح فكقول حبيب ابن أوس‏:‏ لعمري لقد حررت يوم لقيته لو أن القضاء وحده لم يبرد وقوله‏:‏ فهذان البيتان من الطباق القبيح الذي لم يرد لحسن معناه وسلامة لفظه بل لتكون في الشعر مطابقة فقط‏.‏

ومما يجري مجرى المطابق‏:‏ أن يقدم في الكلام جزء الفاظه منظومة نظاماً ويتلى بآخر يجعل فيه ما كان مقدماً في الأول مؤخراً في الثاني وما كان مؤخراً مقدماً وقد سمى قدامة بن جعفر الكاتب هذا الفن التبديل ومثله بقوله بعضهم‏:‏ اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك وبقول الحسن البصري‏:‏ إن من خوفك حتى تلقى الأمن وير لك ممن أمنك حتى تلقى الخوف‏.‏

وقول عمر بن عبيد في بعض دعائه‏:‏ اللهم أغنني بالفقر إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك‏.‏

وقول رجل لآخر وكان يتعهده بالبر‏:‏ اسأل الذي رحمني بك أن يرحمك بي فأما المخالف فهو الذي يقرب من التضاد فكقول أبي تمام‏:‏ تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر قال الحمر والخضر من المخالف وبعض الناس يجعل هذا من المطابق‏.‏

وكذلك قول عمر بن كلثوم‏:‏ بانا نورد الرايات بيضاً وتصدرهن حمراً قد روينا وقول الوليد بن عبيد البحتري‏:‏ والصحيح انهم يعتبرون في التضاد استعمال الألفاظ والأحمر والأبيض ليسا بضدين على عرفهم‏.‏

وإنما ضد البياض السواد على ما ذكرناه آنفاً‏.‏

ومن قبيح المخالف قول أبي تمام‏:‏ مكرهم عنده فصيح وإن هم خاطبوا مكره رأوه جليباً لأنه لما أراد أن يخالف بين فصيح وجليب وهو الذي قد جلب في السبى فلم يفصح بالكلام وجعل المكر جليباً وذلك من الاستعارات المستحيلة والأغراض الفاسدة‏.‏

وأما الإيجاب والسلب فكقول أبي عبادة‏:‏ تقيض لي من حيث لا أعلم النوى ويسرى إلي الشوق من حيث أعلم وكقول السموأل‏:‏ وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقول وكقول الشماخ‏:‏ هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ويملأ منها كل حجل ودملج فقوله‏:‏ لا أعلم واعلم وننكر ولا ينكرون ولا يملأ ويملأن من السلب والإيحاب‏.‏

فأما الذي ذكرناه أنه يسمى المقابلة في مراعاة المعاني حتى يأتي في الموافق وفي المخالف ما يخالف على الصحة فسنورد أمثلته عند شروعنا في الكلام على المعاني بعد الفراغ من الألفاظ وما يتعلق ومن شروط الفصاحة والبلاغة‏:‏ الإيجاز والاختصار وحذف فضول الكلام حتى يعبر عن المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة‏.‏

وهذا الباب من أشهر دلائل الفصاحة وبلاغة الكلام عند أكثر الناس حتى انهم إنما يستحسنون من كتاب الله تعالى ما كان بهذه الصفة ومن الناس من يقول‏:‏ إن من الكلام ما يحسن فيه الاختصار والإيجاز كأكثر المكاتبات والمخاطبات والأشعار ومنه ما يحسن فيه الاسهاب والاطالة كالخطب والكتب التي يحتاج أن يفهمها عوام الناس وأصحاب الأذهان البعيدة فإن الألفاظ إذا طالت فيها وترددت في إيضاح المعنى أثر ذلك عندهم فيه ولو اقتصر بهم على وحى الألفاظ وموجز الكلام لم يقع لأكثرهم‏.‏

حتى يقال في ذكر السيف‏:‏ الحسام القاطع والجزار الباتر وفي وصف الشجاع‏:‏ البطل الفاتك النجد الباسل وما يجرى هذا المجري‏.‏

قالوا‏:‏ وربما كان ذلك الكتاب بالفتح أو الخطبة تقرأ في موقف حافل يكثر فيه لغط الناس وصخبهم فيحتاج إلى تكرار الألفاظ ليكون ما يفوت سماعه قد استدرك ما هو في معناه والذي عندي في هذا الباب انهم إن كانوا يريدون بالإطالة تكرر المعاني والألفاظ الدالة عليها وخروجها في معاريض مختلفة ووجوه متباينة - وإن كان الغرض الأصل واحد - فليس هذا مما نحن بسبيله لأنه بمنزلة إعادة كلام واحد مراراً عدة فإن تلك الإعادة لا تؤثر فيه حسناً ولا قبحاً وإن كانوا يريدون أن المعنى الذي يمكن أن يعبر عنه بألفاظ يسيرة موجزة قد يحسن أن يعبر عنه بألفاظ طويلة ليكون ذلك داعياً إلى فهم العامي والبليد له وتكون الإطالة في هذا الموضع خاصة أصح وأحمد كما أن الوحى والإشارة في موضعهما أوفق وأحسن فأنا لا نسلم ذلك لأنا نذهب إلى أن المحمود من الكلام ما دل لفظه على معناه دلالة ظاهرة ولم يكن خافياً مسغلقاً كالمعنى التي وردت في شعر أبي الطيب وسنذكر ذلك مستوفى مستقصى فيما يأتي من هذا الكتاب‏.‏

فإن كان الكلام الموجز لا يدل على معناه دلالة ظاهرة فهو عندنا قبيح مذموم لا من حيث كان مختصراً بل من حيث كان المعنى فيه خافياً وإن كان يدل على معناه دلالة ظاهرة إلا أنها تخفى على البليد والبعيد الذهن ومن لا يسبق خاطره إلى تصور المعنى ولو كان الكلام طويلاً لجاز أن يقع لهم الفهم فليس هذا عندنا بموجب أن يكون الاسهاب في موضع من المواضع أفضل من الإيجاز‏.‏

كما أن النقوش الغليظة في كثير من الصناعات لا تكون أحسن من النقوش الدقيقة لأن تلك يدركها الضعيف البصر ويتعذر عليه إدراك هذه ولو اعتبرنا هذا في الكلام وفهم البليد له لاعتبرنا ذلك في النقوش وإدراك الضعيف البصر لهاً وهذا فاسد‏.‏

ويلزم من ذهب إلى اختيار العبارة عن المعنى بالألفاظ الكثيرة من حيث كان ذلك سبباً لفهم عوام الناس ومن لا يسبق ذهنه إلى تصور المعنى أن يختار الألفاظ العامية المبتذلة على الألفاظ الفصيحة التي لم تكثر استعمالها العامة ولا ابتذلوهاً لأن علته في اختيار الطويل لأجل فهمهم له قائمة في الألفاظ المتبذلة ولا خلاف أنهم إلى فهمها أقرب من فهم ما يقل ابتذالهم له وهذا مما لا يذهب إليه أحد ولا التزامه ملتزم‏.‏

وقد قسموا دلالة الألفاظ على المعانى ثلاثة أقسام أحدها المساواة وهو أن يكون المعنى وفاضلاً عنه والثالث الاشارة وهو أن يكون المعنى زائداً على اللفظ‏.‏

أي أنه لفظ موجز يدل على معنى طويل على وجه الإشارة واللمحة وقالوا‏:‏ إن التذبيل يصلح للمواقف الجامعة وبحيث يكون الكلام مخاطباً به عامة الناس ومن لايسبق ذهنه إلى تصور المعاني والإشارة تصلح لمخاطبة الخلفاء والملوك ومن يقتضى حسن الأدب عنده التخفيف في خطابه وتجنب الإطالة فيما يتكلف سماعه والمساواة الي هي الوسط بني هذين الطرفين من الإشارة والتذبيل تصلح للوسط بين الطرفين اللذين هما الملوك وعوام الناس‏.‏

والذي عندي في هذا ما ذكرته وهو أن المختار في الفصاحة والدال على البلاغة هو أن يكون المعنى مساوياً للفظ أو زائداً عليه وأعنى بقولي زائداً عليه أن يكون اللفظ القليل يدل على المعنى الكثير دلالة واضحة ظاهرة لا أن تكون الألفاظ لفرط إيجازها قد ألبست المعنى وأغمضته حتى يحتاج في استنباطه إلى طرف من التأمل ودقيق الفكر فإن هذا عندي عيب في الكلام ونقص على ماأبينه فيما بعد وقد دللت على اختيار الإيجاز والاختصار بما تقدم ويدل عليه أيضاً أن من اختار الإطالة وسماها التذبيل إنما حجته في ذلك أنه اعتبر الكلام بالإضافة إلى المخاطب به وليس للمخاطب تأثير في حسن تأليف الكلام وقبحه ولو جاز أن يعتبر الكلام بالإضافة إلى المخاطب لجاز أن يعتبر بالإضافة إلى المخاطب به حتى يكون ذلك مؤثراً في صحته أو فساده وحسنه أو قبحه وكنا نستحسن كلام العالم العاقل وإن كان ردئ التأليف ونستقبح كلام الجاهل وإن كان في أعلى طبقات الفصاحة حتى يكون شعر أبي عثمان الجاحظ وأبي إسحاق النظام أعظم عندنا من شعر أبي حية النميري ومن جرى مجراه وهذا مما لا يدخل في مثله شبهة‏.‏

وسنتكلم على من يعتبر الكلام بالأضافة إلى زمان قائلة حتى يقدم كثيراً من المتقدمين على المحدثين بمجرد تقدمهم بما نستوفي الحجة فيه ونزيل موقع الشبهة وإن كانت ضعيفة لا تخفى على من طباعه سليمة وبنيته صحيحة‏.‏

وذكروا أن جعفر بن يحيى بن خالد كان يقول لكتابه‏:‏ إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيف فافعلواً فهذا أمر لهم بالإيجاز وتجنب الإطالة وقد كان جعفر كبيراً في هذه الصناعة‏.‏

فأما قول قيس بن خارجة الفزاري لما قيل له ما عندك في حمالات داحس‏.‏

قال‏:‏ عندي قرى كل نازل ورضي كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع‏.‏

فليس ذلك من الإطالة في العبارة عن المعنى الواحد بالألفاظ الكثيرة لأنه يجوز أن يكون أراد خطبة تكثر فيها المعاني والألفاظ على ما قدمناه‏.‏

ومن أمثلة الإيجاز والاختصار قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة‏.‏

لأن هذه الألفاظ على إيجازها قد عبر بها عن معنى كثير وذلك أن المراد يها أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعياً هل قوياً إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل بعضهم لبعض فكان ارتفاع التقل حياة لهم وهذا معنى إذا عبر عنه بهذه الألفاظ اليسيرة في قوله تعالى ولكم في القصاص حياة كان ذلك من أعلى طبقات الإيجاز‏.‏

وقد استحسن أيضاً في هذا المعنى قولهم‏:‏ القتل أنفى للقتل‏.‏

وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة وذلك من وجوه‏:‏ أحدها أنه ليس كل قتل ينفى القتل وإنما القتل الذي ينفيه ما كان على وجه القصاص والعدل ففي ذكر القصاص بيان للمعنى وكشف للغرض وثانيها أن في قوله تعالى ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ من إبانة الغرض المرغوب فيه بذكر الحياة ما ليس في قوله القتل أنفى للقتل وهذه زيادة في الإيضاح وثالثها أن نظير قوله القتل أنفى للقتل القصاص حياة والقصاص حياة أوجز لأنه عشرة أحرف والقتل أنفى للقتل أربعة عشر حرفاً ورابعها أن في القتل أنفى للقتل تكريراً وليس في القصاص حياة تكرير وقد قدمنا أن تكرير الحروف عيب في الكلام على ما ذكرناه فيما مضى من هذا الكتاب‏.‏

ومن الإيجاز أيضاً قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقوله تبارك وتعالى يحسبون كل صيحة عليهم وقوله تعالى إنما بغيكم على أنفسكم‏.‏

وأمثال هذا في القرآن كثير والقصد الإيجاز فيما وقع فيه حذف كثير حتى حذفت الأجوبة لدلالة الكلام عليها كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى‏.‏

كأنه يريد لكان هذا القرآن ولم يقل ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ‏"‏ كأنه يريد لما كان هذا كله حصلوا على النعيم الذي لا يشوبه كدر أو غير ذلك من الألفاظ ولم يقله‏.‏

وفي هذا الحذف في الكلام مع الدلالة على المراد فائدة لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ولو ورد ظاهراً في الكلام لاقتصر به على البيان الذي تضمنه فكان حذف الجواب أبلغ لهذه العلة‏.‏

كما تقول‏:‏ لو رأيت علياً بين الصفين وتحذف الجواب فيذهب السامع كل مذهب ولو قلت‏:‏ لو رأيت علياً عليه السلام بني الصفين لرأيت شجاعاً أو لرأيت رجلاً يقتل الأبطال أو ما يجري هذا المجرى لم يكن في العظم عند السامع بمنزلة حذف الجواب لأنه يذهب مع الحذف كل مذهب ولا يعول على نفس ما كان يرد في اللفظ فقط‏.‏

ومما قصد به الإيجار‏:‏ حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه بحث يقع العلم ويزول اللبس كقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ‏"‏ والمعنى أهل القرية وأصحاب العير وكان أبو الحسن عل نب عيسى الرماني يسمى هذا الجنس - وهو إسقاط كلمة لدلالة فحوى الكلام عليها‏:‏ الحذف ويسمى بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف‏:‏ القصر ويجعل الإيجار على ضربين القصر والحذف‏.‏

وكان يسمى العبارة عن المعنى بالكلام الكثير‏.‏

مع أن القليل يكفى فيه‏:‏ التطويل ويسمى العبارة عن المعنى بالكلام الكثير الذي يستفاد منه إيضاح ذلك المعنى وتفصيلة‏:‏ الاطناب ويجعل التطويل عيباً وعياً والأطناب حسناً ومحموداً‏.‏

وهذا المذهب من أبى الحسن موافق لما اخترناه لأنه يذهب إلى حسن الأطناب الذي هو عنده طول الكلام في فائدة وبيان وإخراج للمعنى في معاريض مختلفة وتفصيل له ليتحققه السامع ويستقر عنده فهمه وهذا هو الذي اخترناه وقلن أنه في إنه على التحقيق ألفاظ كثيرة ومعان كثيرة وكذلك قد وافقنا استقباح التطويل وحمد الإيجاز على ما فسره من معنييهما عنده‏.‏

ويجب أن نحد الإيجاز المحمود بأن نقول‏:‏ هو إيضاح المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ وهذا الحد أصح من حد أبي الحسن الرماني بأنه العبارة عن المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ وإنما كان حدنا أولى لأنا قد احترزنا بقولنا‏:‏ إيضاح من أن تكون العبارة عن المعنى وإن كانت موجزة غير موضحة له حتى يختلف الناس في فهمه فيسبق إلى قوم دون قوم بحسب أقساطهم من الذهن وصحة التصور فإن ذلك وإن كان يستحق لفظ الإيجاز والاختصار فليس بمحمود حتى يكون دلالة ذلك اللفظ على المعنى دلالة واضحة وقد قدمنا ما ورد في القرآن من أمثلة ذلك وإن كانت كثيرة يطول استقصاؤها ومنه قول أمير المؤمنين عليه السلام‏:‏ قيمة كل امرئ ما يحسن فإن هذه الألفاظ على غاية الإيجاز وإيضاح المعنى وظهور حسنها يغنى عن وصفه‏.‏

وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب أنه قال‏:‏ دخلت يوماً على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى ويصعد ويصوب فيه طرفه قال‏:‏ فلما مرت على ذلك مدة من زمانه التفت إلى فقال‏:‏ يا أحمد أراك مفكراً فيما تراه منى قلت‏:‏ نعم‏!‏ وفى الله أمير المؤمنين المكاره وأعاذه من المخاوف قال‏:‏ فإنه لا مكروه في الكتاب ولكني قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله في البلاغة فإني سمعته يقول‏:‏ البلاغة التباعد عن الاطالة والتقرب من معنى البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب ورمى به إلى‏.‏

وقال هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا‏.‏

قال‏:‏ فقرأته فإذا فيه‏:‏ كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلى من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم فاختلت لذلك أحوالهم والتاثت معه أمورهم فلما قرأته قال لي‏:‏ إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجد قبله بعطاياهم لسبعة أشهر وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حل محله في صناعته‏.‏

وروى عن المأمون أيضاً‏:‏ أنه أمر عمرو بن مسعدة أن يكتب لرجل يعنى به إلى بعض القمال وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد فكتب إليه عمرو بن مسعدة‏:‏ كتابي إليك كتاب واثق بمن كتبت إليه معنى بمن كتبت له ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله ومن أمثلة الإيجاز في النظم قول زهير‏:‏ فإني لو لقيتك واتجهنا لكان لكل منكرة كفاء لأن مقصوده إنني لو واجهتك لكان عندي مكافأة لك على كل أمر يبدو منك أنكره فقد أورد المعنى في لفظ قليل وبهذا كان يوصف شعره زهير أنه كثير الإيجاز مع الإيضاح لمعانيه ومن ذلك أيضاً قول امرئ القيس‏:‏ على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جرى غير كز ولاوان لأنه جمع بقوله‏:‏ أفانين جرى مالوعد كان كثيراً وأضاف إلى ذلك أوصاف الجودة في الفرس بقوله‏:‏ إنه يعطى قبل سؤاله أفانين جريه ولا يحتاج إلى حث ونفى عنه بقوله‏:‏ غير كز ولا وان أن تكون معه الكزازة من قبل الجماح والمنازعة والوني من قبل الاسترخاء والفترة‏.‏

فكان في هذا البيت جملة من وصف الفرس قد عبر بها عن معان كثيرة‏.‏

ومما يذكر من الإيجاز أيضاً قول أمرأة من عكل‏:‏ يابن الدعي إنه عكل فقف لتعلمن اليوم إن لم تنصرف أن الكريم واللئيم مختلف وهذا إجمال في المعنى وإيجاز في العبارة عنه‏.‏

ومن ذلك أيضاً قول الشريف الرضى‏:‏ مالوا على شعيب الرحال وأسندوا أيدي الطعان إلى قلوب تخفق لأنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في متابعتهم الغرام والصبابة عبر عن ذلك بقوله‏:‏ أيدي الطعان فأتى بأخصر ألفاظ وأوجزها‏.‏

ومن الإيجاز أيضاً قول عمر بن معد يكرب‏:‏ فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت أي شقت لساني كما يجر لسان الفصيل يريد أنها اسكتتني ومن هذا الفن أيضاً قول حميد بن ثور الهلالي‏:‏ أرى بصرى قد خانني بعد صحة وحسبك داء أن تصح وتسلما فإن قوله‏:‏ وحسبك داء أن تصح وتسلما من الإيجاز الحسن‏.‏

وكذلك قول نصيب‏.‏

فإن قوله‏:‏ لو سكتوا اثنت عليك الحقائب من الكلام الحسن الموجز والأصل في مدح الإيجاز والاختصار في الكلام أن الألفاظ غير مقصودة في أنفسها وإنما المقصود هو المعاني والأغراض التي احتيج إلى العبارة عنها بالكلام فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة وإذا كان طريقان يوصل كل واحد منهما إلى المقصود على سواء في السهولة إلا أن أحدهما أخصر وأقرب من الآخر فلا بد أن يكون المحمود منهما هو أخصرهما وأقربهما سلوكا إلى المقصد فإن تقارب اللفظان في الإيجاز وكان أحدهما أشد إيضاحاً للمعنى كان بمنزلة تساوى الطريقين في القرب وزيادة أحدهما بالسهولة‏.‏

ومثل هذا قول أبى عبادة‏:‏ ولم أني ليلتنا في العناق لف الصبا بقضيب قضيبا وقول غيره‏:‏ وضم لا ينهنهه اعتناق كما التف القضيب على القضيب فإن هذين البيتين وأن تساويا في كمية الألفاظ فإن بيت أبي عبادة أوضح لأنه بين بذكر الصبا ما يلف القضيب على القضيب ومن ذلك أيضاً قول أبي القاسم المطرز البغدادي‏:‏ وردت وقد حل لي مآؤه فلما بكيت عليه حرم وقول مهيار بن مرزويه‏:‏ فبيت مهيار وأن قارنت ألفاظه عدد ألفاظ بيت المطرز فقد تضمن من إيضاح المعنى ما لم يتضمنه بيت المطرز لأن قائلاً لو قال لم حرم الماء لما بكى عليه لو جب - في حق تفسير المعنى وإيضاحه - أن يقال‏:‏ لأن دموعه كانت دماً غلب على هذا الماء والدم حرام فقد أتى مهيار بهذا التفسير في متن البيت وعلى هذا القياس يعتبر الإيضاح في الإيجاز لئلا يقع فيه إخلال بالمعنى وإشكال فيه ولذلك أمثله منها قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود‏:‏ اعاذل عاجل ما أشتهى أحب من الأكثر الرائث لأنه أراد عاجل ما اشتهى مع القلة أحب إلى من الأكثر المبطي فترك مع القلة وبه تمام المعنى‏.‏

ومنها قول عروة بن الورد‏:‏ عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم وفقدلهم عند الوغى كان أعذرا والعيش خير في ظلا ل النوك ممن عاش كدا فأارد أن يقول‏:‏ والعيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل فأخل بأكثر المعنى‏.‏

ومن أمثلة ذلك في النثر ما حكاه أبو الفرج قدامة بن جعفر أن بعضهم كتب في كتاب له‏:‏ فإن المعروف إذا وحا كان أفضل منه إذا توفر وأبطأ‏.‏

فأراد أن يقول‏:‏ أن المعروف إذا قل ووحا كان أفضل منه إذا كثر وأبطأن فترك ما بنى المعنى عليه وهو ذكر القلة‏.‏

وكذلك كتب بعضهم‏:‏ فما زال حتى أتلف ماله وهلك رجاله وقد كان ذلك في الجهاد والإبلاء أحق بأهل الحزم وأولى‏.‏

فاخل بما فيه تمام المعنى وذلك أن الذي أراد‏:‏ أنه أنفق ماله وأهلك رجاله في السلم والموادعة وقد كان ذلك في الجهاد أفضل فاخل بذكر السلم أو ما يقوم مقامه فصار المعنى ناقصاً‏.‏

ولحمد الإيجاز فضل أحد الشاعرين على صاحبه إذا كانا قد اشتركا في معنى وأوجز أحدهما في ألفاظه أكثر من الآخر ولهذا قدموا قول الشماخ بن ضرار‏:‏ إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين على قول بشر بن أبي حازم‏:‏ إذا ما المكرمات رفعن يوماً وقصر مبتغوها عن مداها وضأقت أذرع المثرين عنها سما أوس إليها فاحتواها وإن كان ابن أبي خازم سبق الشماخ إلى المعنى إلا أنه جاء به في بيتين واختصره الشماخ فأتى به في بيت واحد‏.‏

ومن هذا القبيل أيضاً قول امرئ القيس‏:‏ إذا ما استحمت كان فيض حميمها على متنتيها كالجمان لدى الجالي فإن امرئ القيس أتى بهذا التشبيه في بيت واحد وأخذه الوليد بن يزيد فأساء لأنه أتى به في بيتين فقال‏:‏ جمان يجول على فضة جلته حدايد دواسها على أن الوليد قد زاد في التشبيه بقوله‏:‏ على فضة لكن بين ألفاظه وألفاظ امرئ القيس تفاوت لا يخفى‏.‏

فأما المساواة بين اللفظ والمعنى كما وصف بعض الأدباء رجلاً فقال‏:‏ كانت ألفاظه قوالب لمعانيه أي هي مساوية لها لا يفضل أحدهما على الآخر وحد المساواة المحمودة هو إيضاح المعنى باللفظ الذي لا يزيد عنه ولا ينقص وقد احترزت بقولي‏:‏ إيضاح مما احترزت منه في حد الإيجار لما أذهب إليه من قبح العبارة عن المعنى باللفظ الذي لا يوضحه وفرقت بين المساواة والتذييل بقولي‏:‏ لا يزيد عنه لأن التذييل لفظ يزيد على المعنى وفرقت بين المساواة والإيجاز والاخلال بقولي‏:‏ ولا ينقص لأن الإيجاز والإخلال لفظ ينقص عن المعنى إلا أن الفرق بين الإيجار والاخلال أن الإيجاز على ما ذكرناه إيضاح المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ والاخلال هو نقص المعنى باختصار اللفظ فقد فهم بهذا القول‏:‏ الإيجاز والاخلال والمساواة والتذييل ولكل من ذلك أمثلة‏.‏

فأما أمثلة الإيجاز والإخلال فقد ذكرناها وأما أمثلة المساواة فكثيرة ومنها قول زهير‏:‏ ومهما يكن عند امرئ من خليفة ولو خالها تخفى على الناس تعلم إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا أصبت حليما أو أصابك جاهل وقوله طرفة بن العبد‏:‏ ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقول أبي نصر بن نباتة‏:‏ عسى ممسك الريح القبول يعيدها وينقص من أنفاسنا ويزيدها وقوله أيضاً‏:‏ إذا كان نقصان الفتى في تمامه فكل صحيح في الأنام عليل وقول أبي الطيب‏:‏ أتى الزمان بنوه في شبيبته فسرهم وأتيناه على الهرم وقول أبي عبادة‏:‏ ما زال يسبق حتى قال حاسده له طريق إلى العلياء مختصر وأمثال هذا أكثر من أن تحصى‏.‏

وأما التذييل‏:‏ فهو العبارة عن المعنى بألفاظ تزيد عليه وإنما لم نقل في التذييل إيضاح المعنى كما قلنا في حد المساواة والإيجاز لما يذهب إليه من حمد الإيجاز والمساواة إذا كان المعنى فيهما واضحا فاحترزنا بالإيضاح من أن ندخل في الحد ما لا نحمده من المساواة والإيجاز اللذين يكون المعنى فيهما غامضاً خفيا فأما التذييل قانا على ما قدمناه لا نحمده في موضع من المواضع فلا معنى لاحترازنا بذكر الإيضاح في جده‏.‏

فأما مثاله فكما وقفت لبعض الكتاب المتأخرين على فصل من كتاب له شفاعة وهو‏:‏ وفلان بن فلان الرجل المشهور بالفروسية والرجلة والشجاعة والنجدة وله السن والحنكة والتجارب والدربة فهذا كله تطويل بإيراد ألفاظ كثيرة تدل على معنى واحد‏.‏

وكذلك قول الشاعر‏:‏ فقدمت الأديم لراهشيه والفى قولها كذباً ومينا فالكذب والمين واحد والفرق بين التطويل والحشو أن الحشو لفظ يتميز عن الكلام بأنه إذا حذف منه بقى المعنى على حاله والتطويل هو أن يعبر عن المعاني بألفاظ كثيرة كل واحد منها يقوم مقام الآخر فأي لفظ شئت من تلك الألفاظ حذفته وكان المعنى على حاله وليس هو لفظاً متميزاً مخصوصاً كما كان الحشو لفظاً متميزاً مخصوصا يبين ذلك أن الحشو على ما قدمناه من وصفه نحو قول أبي عدي‏:‏ نحن الرؤس وما الرؤس إذا سمت في المجد للأقوام كالأذناب فللأقوام هو الحشو لأن هذه اللفظة دون ألفاظ البيت هي التي إذا حذفت منه بقي المعنى بحاله والتطويل مثل ما حكيناه في قوله‏:‏ الرجل المشهور بالفروسية والرجلة والشجاعة والنجدة‏.‏

لأن هذه الألفاظ كلها بمعنى واحد فأنت أن شئت حذفت الرجلة وإن شئت حذفت الشجاعة وإن شئت حذفت النجدة وإن حذفتهما معاً بقي الكلام بحاله فهذا هو الفرق بين الحشو والتطويل وعلى أن الحشو في الأكثر إنما يقع في النظم لأجل الوزن وفي النثر لأجل تساوى الفصول أو الاسجاع ويجب أن يعتبر الكلام في التطويل والحشو والمساواة والإيجاز والإخلال بهذا الاعتبار وهو أن يتأمل الكلام المؤلف فإن كان المعنى فيه ناقصاً غير مستوفى فذلك الإخلال‏.‏

وإن كان المعنى تاماً فلا يخلو أن يكون في الألفاظ ما إذا حذفته بقي المعنى بحاله أو ليس في الألفاظ ما إذا حذف بقى المعنى بحاله فإن كان فيها ما إذا حذف بقى المعنى بحاله فلا يخلو من أن يتميز ذلك اللفظ الزائد من غيره أو لا يتميز فإن لم يتميز فتلك الإطالة وأن تميز فذلك الحشو وإن لم يكن في الكلام ما إذا حذف بقي المعنى بحاله فلا يخلو من أن يكون تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من تلك الألفاظ أو لا تمكن فإن كان تمكن العبارة عن ذلك المعنى باقل من ذلك اللفظ فتلك المساواة وإن كان لا تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من ذلك اللفظ فذلك هو الإيجاز‏.‏

فبهذا يصح لك اعتبار الأقسام المذكورة ولا يخفى شئ منها على المتأمل‏.‏

ومن شروط الفصاحة والبلاغة‏:‏ أن يكون معنى الكلام واضحاً ظاهراً جلياً لا يحتاج إلى فكر في استخراجه وتأمل لفهمه وسواء كان ذلك الكلام الذي لا يحتاج إلى فكر منظوماً أو منثوراً‏.‏

وإنما احتجنا إلى هذا التفصيل لأن أبا اسحق إبراهيم بن هلال الصابي غلط في هذا الموضع فزعم أن الحسن من الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة وممطالطة والحسن من النثر ما سبق معناه لفظه ففرق بين النظم والنثر في هذا الحكم ولا فرق بينهما ولا شبهة تعترض المتأمل في ذلك‏.‏

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أناقد بينا أن الكلام غير مقصود في نفسه وإنما احتيج إليه ليعبر الناس عن أغراضهم ويفهموا المعاني التي في نفوسهم فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني ولا موضحة لها فقد رفض الغرض في أصل الكلام وكان ذلك بمنزلة من يصنع سيفاً للقطع ويجعل حده كليلا ويعمل وعاء لما يريد أن يحرزه فيقصد إلى أن يجعل فيه خروفاً تذهب ما يو عن فيه‏.‏

فإن هذا مما لا يعتمده عاقل ثم لا يخلو أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أولا يريد إفهامه فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه‏:‏ وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه‏.‏

وإذا كان هذا مفهوماً فالأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على السامع سنة‏:‏ اثنان منها في اللفظ بانفراده وإثنان في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض واثنان في المعنى‏.‏

فأما اللذان في اللفظ بانفراده فأحدهما أن تكون الكلمة غريبة كما ذكرنا فيما تقدم من وحشى اللغة العربية والآخر أن تكون الكلمة من الأسماء المشتركة في تلك اللغة كالصدى الذي هو العطش والطائر والصوت الحادث في بعض الأجسام‏.‏

وأما اللذان في تأليف الألفاظ فأحدهما فرط الإيجاز كبعض الكلام الذي يروى عن بقراط في علم الطب والآخر إغلاق النظم كأبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي وغيره‏.‏

وكما يروى من كلام ارسطوطا ليس في المنطق‏.‏

وأما اللذان في المعني فأحدهما أن يكون في نفسه دقيقاً ككثير من مسائل الكلام في اللطيف والآخر أن يحتاج في فهمه إلى مقدمات إذا تصورت بني ذلك المعنى عليها فلا تكون المقدمات حصلت للمخاطب فلا يقع له فهم المعنى كالذي يريد فهم فروع الكلام والنحو وغيرهما من العلوم قبل الوقوف على الأصول التي بنيت تلك الفروع عليها وإذا كان هذا واضحاً فإن استعمال الألفاظ الغريبة الوحشية نقص في الفصاحة التي هي الظهور والبيان على ما قدمنا من ذلك فيما مضى من كتابنا هذا فأما استعمال الألفاظ المشتركة كالصدى فإنه يحسن في فصيح الكلام إذا كان في اللفظ دليل على المقصود مثل قول أبي الطيب‏:‏ ودع كل صوت دون صوتي فإنني أنا الطائر المحكى والآخر الصدى فإن الصدا ها هنا لا يشكل بالصدى الذي هو الطعش ولا يسبق ذلك إلى فهم أحد من السامعين فأما إن كان ذلك في موضع يشكل فليس ذلك بموافق للفصاحة‏.‏

وأما السببان اللذان في التأليف وهما إفراط الإيجاز وإغلاق اللفظ فمن شروط الفصاحة والبلاغة أن يسلم الكلام منهما لما قدمناه من الدلالة على ذلك‏.‏

وأما السببان اللذان في المعاني وهما دقة المعنى في نفسه وحاجته إلى الاحاطة بأصل قد بني عليه فليس في أن يجعل المعنى الدقيق ظاهراً جلياً جله للمعبر عنه لكن يحتاج أن يحسن العبارة عنه ويبالغ في إيضاح الدلالة ليكون ما في المعنى من الدقة واللطافة بآزاء ما في العبارة عنه من الظهور والفصاحة وكذلك يحتاج السامع إلى إحكام الأصل قبل أن يقصد إلى فهم الفرع ويحتاج المخاطب إلى ذكر المقدمات إذا كان غرضه أن يفهم المخاطب كلامه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون في تأخير البيان عن وقت الخطاب أيجوز عندكم أم لا يجوز فإن منعتم من جوازه كان قولكم مطردا وأن أجزتموه فما وجه إنكاركم إغلاق اللفظ ومطالبتكم بإيضاح المعنى وبيان المراد مع قولكم بتأخير البيان عن وقت الخطاب قيل الجواب‏:‏ إنا لا نذهب إلى أن كل أمر يؤثر في الفصاحة وتعتبر سلامة أعلى طبقاتها منه غير جائز في الاستمعال ولا سائغ في الكلام وكيف نقول ذلك وقد قدمنا من شروط الفصاحة أن تكون الكلمة مبنية من حروف متباعدة المخارج وغير كثيرة الحروف ومع ذلك فألفاظ العرب المبنية من الحروف المتقاربة المخارج والكثيرة الحروف أكثر من أن تحصى وقد أستعملوا تلك الألفاظ في الفصيح من كلامهم وكذلك إذا قلنا من شروط الفصاحة الإيجاز لم يكن ذلك منعاً لجواز الإسهاب ولا رفضاً لاستعماله وإنما مقصودنا أن هذا النحو احسن من هذا النحو وبهذا الوجه يستدل على الفصاحة أكثر من هذا الوجه‏.‏

فإذا كان هذا بينا فلو قلنا بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لم يكن ذلك مناقضاً لقولنا‏:‏ إن مقارنة البيان لوقت الخطاب أحسن وإلى حيز الفصاحة والبلاغة أقرب لأن لا نتكلم في هذا الموضع على الجائز والممتنع وإنما كلامنا على الأفصح والأحسن‏.‏

على أن من منع من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إنما علل ذلك لأنه خطاب لا يفهم منه المراد فجرى في القبح مجرى خطاب العربي بالزنجية ومن أجازه فرق بين الخطاب بالزنجية وبين تأخير البيان بأن في الخطاب مع تأخير البيان بعض الفائدة البيان بعض الفائدة والفهم للمراد كتوطين النفس على الفعل والعزم عليه إن كان الخطاب أمراً وليس في الخطاب للعربي بالزنجية ذلك‏.‏

فقد وقع والإجماع على انه متى لم يفهم من الخطاب شئ كان قبيحاً‏.‏

فإن قيل‏:‏ كلامكم الماضي يدل على أن في القرآن ما بعضه أفصح من بعض وفي الناس من يخالفكم ويأبى ذلك فما عندكم فيه قلنا‏:‏ أما زيادة بعض القرآن على بعض في الفصاحة فالأمر منه ظاهر لا يخفى على من علق بطرف من هذه الصناعة وشدا شيئاً يسيرا وما زال الناس يفردون مواضع من القرى يعجبون منها في البلاغة وحسن التأليف كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت عل الجودى وقيل بعداً للقوم الظالمين ‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم ‏"‏‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب ‏"‏ وأمثال هذا ونظائره كثير‏.‏

فلو كانوا يذهبوا إلى تساويه في الفصاحة لم يكن لإفرادهم هذه المواضع المعينة المخصوصة دون غيرها معنى وإنما تدخل الشبهة في هذا ومثله على الأعاجم من الفقهاء والمتكلمين لجهلهم بهذه الصناعة وعدم فهمهم لقوانينها‏.‏

فإن من عجيب أمرهم أن أحدهم إذا حاول ابتياع ثوب أو دابة وعلم أن غيرهن أخبر بذلك الجنس منه لم يرض بمقدار علمه حتى يرجع إلى من تظن معرفته بالثياب أو الدواب فيستفتيه ويقلده ويقبل رأيه كل ذلك خوفاً من أن يستمر عليه الغبن في شئ من ماله وإذا وصل إلى الكلام في كتاب الله تعالى ووجه إعجازه ما هو وهل هو صرف العرب عن معارضته أو علوه عن كلامهم بفصاحته وكان ذلك يحتاج إلى صناعة لا يفهمها وعلوم لا يعرف شيئاً منها لم ير أن يرجع إلى أقوال العلماء بتلك الصناعة والمهتمين بفهم أسرار تلك العلوم‏.‏

بل قال بغير حجة وأفتى من غير معرفة ورضى أن يغبن عقله ودينه من الموضع الذي تحرز فيه وأشفق أن يغبن شيئاً من ماله‏.‏

وليت شعري أي فرق بين أن يخلق الله وجهين أحدهما أحسن وأصبح من الآخر وبين أن يحدث كلامين أحدهما أبلغ وافصح من الآخر وهل من يفرق بينهما إلا مقترح‏.‏

ثم ليس أحد ممن ينكر أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض يتمنع من القطع على أن القرآن في لغته أفصح من التوراة في لغتها والإنجيل في لغته والزبور في لغته لأن تلك الكتب عنده لم تكن معجزة لخرقها العادة بالفصاحة وإن كان الجميع كلام الله تعالى‏.‏

فما المانع من أن يكون بعض كلامه الذي هو القرآن أفصح من بعض حتى تكون آية منه أفصح من آية والجميع كلام الله كما جاز عنده أن يكون القرآن أفصح من الانجيل وإن كان الجميع كلام الله وهذا لا يخفى على محصل‏.‏

فإن قيل‏:‏ الذي يمنع أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض‏.‏

القول بأن قدر كل سورة من قصار سور المفضل منه قد خرق العادة في الفصاحة بفصاحته وكان معجزاً لعلوه في الفصاحة وما كان خارفاً للعادة‏.‏

في الفصاحة لا يكون غيره أفصح منه‏.‏

قيل‏:‏ الجواب عن هذا أولا أن الصحيح أن وجه الاعجاز في القرآن هو صرف العرب عن معارضنته وأن فصاحته قد كانت في مقدورهم لولا الصرف وهذا هو المذهب الذي يعول عليه أهل هذه الصناعة وأرباب هذا العلم وقد سطر عليه من الأدلة ما ليس هذا موضع ذكره فالسؤال على هذا المذهب ساقط‏.‏

ثم لو سلم أن وجه الإعجاز هو الفصاحة لم يمنع أن يكون كلام معجز يخرق العادة بفصاحته أفصح من كلام معجز يخرق العادة بفصاحته فإن نبياً لو أظهر الله على يده معجزاً - وهو حمله ألف رطل - لم يمنع أن يظهر على يده أو على يد بني غيره معجزا آخر وهو حمل ألفي رطل فيكون المعجزان أحدهما أعظم من الآخر مع كون كل واحد منهما معجزاً‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون في الكلام الذي وضع لغزاً وقصد ذلك فيه‏.‏

قيل‏:‏ إن الموضوع على وجه الألغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه وجعل ذلك فناً من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس وتمتحن أذهانهم فلما كان وضعه على خلاف وضع الكلام في الأصل كان القول فيه مخالفاً لقولنا في فصيح الكلام حتى صار يحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض‏.‏

أو ما جرى مجرى ذلك‏.‏

كما قال بعضهم في الشمع‏:‏ تحيا إذا ما رؤسها قطعت وهن في الليل أنجم زهر وقد كان شيخنا أبو العلاء يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيرا ومنه قوله‏:‏ وجبت سرابياً كأن أكامه جوار ولكن ما لهن نهود فألغز بقوله‏:‏ جوار عن الجوارى من الناس وهو يريد كأنهن يجرين في السراب وبقوله‏:‏ نهود عن نهود الجوارى وهو يريد بنهود نهوض أي كأنهن يجرين في السراب وما لهن على الحقيقة نهوض‏.‏

وأراد بقوله‏:‏ تمجس الحرباء أي صار لاستقباله الشمس كالمجوس التي تعبدها وتسجد لها وجعل الرواهب النعام لسوادها ويهود‏:‏ يرجع وهو يلغز بذلك عن اليهود لما ذكر المحوس والرواهب وكذلك قوله‏:‏ إذا صدق الجد اتفرى العم للفتى مكارم لا تكرى وإن كذب الخال لأنه يريد بالجد‏:‏ الحظ وبالعم‏:‏ الجماعة من الناس وبالخال‏:‏ المخيلة وقد ألغز بذلك عن العم والجد والخال من النسب‏.‏

فهذا وأمثاله ليس من الفصاحة بشئ وإنما هو مذهب مفرد وطريقة أخرى‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما عندكم في الحكاية التي تحكى عن أبي تمام أنه لما قصد عبد الله ابن طاهر بقصيدته التي أولها‏:‏ أهن عوادى يوسف وصواحبه فعزماً فقدماً أدرك السؤل طالبه وعرض هذه القصيدة على أبي العميثل صاحب عبد الله بن طاهر وشاعره‏.‏

فقال له أبو العميثل - عند إنشاده أول القصيدة -‏:‏ لم لا تقول يا أبا تمام من الشعر ما يفهم‏.‏

فقال‏:‏ وأنت يا أبا العميثل لم لا تفهم من الشعر ما يقال فانقطع أبو العميثل‏:‏ قيل‏:‏ إن الذي قاله أبو تمام وأبو العميثل صحيح لأن أبا العميثل طلب من أبي تمام إذ كان حاذقاً في صناعة الشعر وقد قصد مثل عبد الله بن طاهر بالمديح أن يكون شعره مفهوماً واضحاً يسبق معناه لفظه فكان هذا من أبي العميثل كلاماً صحيحاً في موضعه وطلب أبو تمام من أبي العميثل إذ كان يدعى علم الشعر ويتحقق بالأدب ويخدم عبد الله بن طاهر في اعتراض قصائد الشعراء وترتيبهم على مقدار ما يستحقه كل منهم بحظه من الصناعة أن يكون يفهم معاني الشعر ويطلع على الغامض والظاهر منها وكان هذا من أبي تمام أيضاً كلاماً صحيحا وكانا فيه بمنزلة من يقول لصاحبه لم فعلت ذلك الفعل وهو قبيح‏.‏

فيقول كما فعلت أنت ذلك الفعل الآخر وهو قبيح فيكون كل واحد منهما قد أجاب من طريق الجدل وإن كان لم يدل على أنه أصاب وأخطأ صاحبه‏.‏

وإذا كان هذا مفهوماً فأمثله الكلام الذي يظهر معناه ولا يحتاج إلى الفكر في استخراجه كثيرة وعامة شعر أبي عبادة البحتري عليه فأمام الذي يسأله عن معناه ويفكر في فهمه فكالأبيات التي من شعر أبي الطيب المتنبي وقد نعاها عليه الصاحب أبو القاسم بن عباد رحمه الله وكان يسميها رقى العقارب والناس إلى اليوم مختلفون في معاني بعضها وكل يذهب إلى فن ويسبق خاطره إلى غرض كقوله‏:‏ وقوله‏:‏ عيون رواحلى إن جزت عيني ولك بغام رازحة يغامي فأما غير ذلك مما قد فهم معناه ولم يختلف فيه إلا أنه مع ذلك لا يخرج إلا بطرف من الفكر فكقوله‏:‏ ودون الذي ينعون ما لو تخلصوا إلىن الشيب منه عشت والطفل أشيب وقوله أيضاً‏:‏ سرب محاسنه حرمت ذواتها داني الصفات بعيد موصوفاتها وقوله‏:‏ رجلاه في الركض رجل واليدان يد وفعله ما تريد الكف والقدم وأمثال هذا له ولغيره كثير‏.‏

وقد قال بشر بن المعتمر في وصيته‏:‏ إياك والتوعر في الكلام فإنه يسلمك إلى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويمنعك من مراميك وحكى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ عن بعض من وصف البلاغة‏.‏

فقال‏:‏ ينبغي أن يكون الأسم للمعنى طبقاً وتلك الحال له وفقاً ولا يكون الاسم لا فاضلاً ولا مقصراً ولا مشتركاً ولامضمناً‏.‏

فهذا كله يدل على صحة ما قلناه وإن كانت الشبهة لا تعترض فيه لمتأمل‏.‏

ومن نعوت البلاغة والفصاحة‏:‏ أن تراد الدلالة على المعنى فلا يستعمل اللفظ الخاص الموضوع له في اللغة بل يؤتى بلفظ يتبع ذلك المعنى ضرورة فيكون في ذكر التابع دلالة على المتبوع وهذا يسمى الإرداف والتتبيع لأنه يؤتى فيه بلفظ هو ردف اللفظ المخصوص بذلك المعنى وتابعه والأصل في حسن هذا أنه يقع فيه من المبالغة في الوصف ما لا يكون في نفس اللفظ المخصوص بذلك المعنى ومثاله قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏ بعيدة مهوى القرط إما لنوفل أبوها وإما عبد شمس وهاشم فإنه إنما أراد أن يصف هذه المرأة بطول العنق فلو عبر عن ذلك باللفظ الموضوع له لقال طويلة العنق فعدل عن ذلك وأتى بلفظ يدل عليه وليس هو الموضع له‏.‏

فقال‏:‏ بعيدة مهوى القرط فدل بعد مهوى قرطها على طول الجيد وكان في ذلك من المبالغة ما ليس في قوله‏:‏ طويلة العنق لأن بعد مهوى القرط يدل على طول أكثر من الطول الذي يدل عليه طويلة العنق لأن كل بعيدة مهوى القرط طويلة العنق وليس كل طويلة العنق بعيدة مهوى القرط إذا كان الطول في عنقها يسيرا وهذا موضع يجب فهمه‏.‏

ومنه قول امرئ القيس‏:‏ وتضحى فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل فإنه لما أراد أن يصف ترفه هذه المرأة ونعمتها‏.‏

قال‏:‏ نؤوم الضحى يبقى فتيت المسك فوق فراشها لم تنتطق لتخدم نفسها فعبر بذلك عن غناها وترفهها وخفص عيشها وأتى بألفاظ تدل على ذلك أبلغ مما يدل عليه قوله‏:‏ إنها غنية مرفهة وكذلك قوله‏:‏ وقد اغتدى والطيرفي وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل لأنه أراد أن يصف الفرس بالسرعة فلم يقل إنه سريع وقال‏:‏ قيد الأوابد وهي الوحوش أي أنه إذا طلبها على هذا الفرس لحقها لسرعته فكأنه قيدها له وفي هذا من المبالغة ما ليس في وصف الفرس بأنه سريع لأن الفرس قد يكون سريعاً ولا يلحق الوحش حتى تصير بمنزلة المقيدة له‏.‏

وقد استحسن الناس هذا اللفظ من امرئ القيس حتى قالوا‏:‏ هو أول من قيد الأوابد وأصحاب صناعة البلاغة يذكورن الارداف ولا يشرحون العلة في سببه وحسنه من المبالغة التي نبهنا عليها ومنه في النثر قول أعرابية وصفت رجلاً فقالت‏:‏ لقد كان فيهم عمار وما عمار طلاب بأوتار لم تخمد له قط نار‏.‏

فأرادت بقولها‏:‏ لم تخمد له قط نار كثرة إطعامه الطعام فلم تأت بذلك اللفظ بعينه بل بلفظ هو أبلغ في المقصود لأن كثيراً ممن يطعم الطعام تخمد ناره في وقت‏.‏

وكذلك قول الأخرى‏:‏ له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك‏.‏

فأرادت‏:‏ أن هذا الرجل ينحر إبله فقل ما تسرح وتبعد في المرعى لأنه يبركها بفنائه ليقرب عليه نحرها للضيوف والمزهر العود الذي يغنى به فإذا سمعت الإبل صوته أيقنت أنها هوالك لما قد اعتادته من نحره لها إذا سمع الغناء وانتشى وذلك لاتعتاده الإبل وتفهمه إلا مع الاستمرار والدوام‏.‏

وهذا كله أبلغ من قولها‏:‏ إنه ينحر الإبل على ما قدمناه وبيناه‏.‏

ومن هذا الفن من الإرداف قول أبي عبادة‏:‏ فأوجرته أخرى فأضللت نصله بحيث يكون اللب والرعب والحقد لأنه أراد القلب فلم يعبر عنه باسمه الموضوع له وعدل إلى الكناية عنه بما يكون اللب والرعب والحقد فيه وكان ذلك أحسن لأنه إذا ذكره بهذه الكنايات كان قد دل على شرفه وتميزه عن جميع الجسد بكون هذه الأشياء فيه وأنه أصاب هذا المرمى في أشرف موضع منه‏.‏

ولو قال‏:‏ أصبته في قلبه لم يكن في ذلك دلالة على أن القلب أشرف أعضاء الجسد فعلى هذا السبيل يحسن الإرداف‏.‏

ومما يجرى مجرى قول أبي عبادة قول غيره‏:‏ الضاربين بكل أبيض مخذم والطاعنين مجامع الأضغان وفيما ذكرناه كفاية في الدلالة على كل ما هو من هذا الجنس‏.‏

ومن نعوت الفصاحة والبلاغة‏:‏ أن يراد معنى فيوضح بألفاظ تدل على مغنى آخر وذلك المعنى مثال للمعنى المقصود وسبب حسن هذا مع ما يكون فيه من الإيجاز أن تمثيل المعنى يوضحه ويخرجه إلى الحس والمشاهدة وهذه فائدة التمثيل في جميع العلوم لأن المثال لا بد من أن يكون ألم تك في يمنى يديك جعلتني فلاتجعلني بعدها في شمالكا فأراد‏:‏ أني كنت عندك مقدما فلا تؤخرني ومقربا فلا تبعدني فعدل في العبارة عن ذلك إلى أني كنت في يمينك فلا تجعلني في شمالك لأن هذا المثال أظهر إلى الحس وكذلك قول الآخر‏:‏ تركت يدى وشاحا له وبعض الفوارس لا يعتنق فعبر عن قوله‏:‏ عانقته بأنني تركت يدي وشاحاً له فأوضح المعنى حين جعل له مثالا معروفاً مشاهدا ومنه أيضاً قول زهير‏:‏ ومن بعض أطراف الزجاج فإنه يطيع العوالي ركبت كل لهذم لأنه عدل عن وقوله‏:‏ ومن لم يطع باللين أطاع بالعنف إلى أن قال‏:‏ ومن لم يطع زجاج الرماح أطاع الأسنة وكان في هذا التمثيل بيان المعنى وكشفه‏.‏

ومن أمثلة ذلك في النثر ما كتب به الوليد بن يزيد - لما بويع - إلى مروان ابن محمد قد بلغه توقفه عن البيعة له‏:‏ أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وترخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام‏.‏

فعبر عن مراده بمثال أوضحه وأوجزه‏.‏

ومنه أيضاً ما كتب به الحجاج إلى المهلب حين حضه على قتال الأزارقة وتوعده له حيث قال‏:‏ فإن أنت فعلت ذلك وإلا شرعت إليك صدر الرمح‏.‏

فأجابه المهلب وقال‏:‏ فإن يشرع الأمير إلى صدر الرمح قلبت له ظهر المجن‏.‏

فهذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها واشتراكها مع المعاني ومن وقف عليه عرف حقيقة الفصاحة ومائتيها وعلم أسرارها وعللها فأما الكلام على المعاني بانفرادها فقد قدمنا القول بأن البلاغة عبارة عن حسن الألفاظ والمعاني وإن كل كلام بليغ لا بد من أن يكون فصيحا وليس كل فصيح تليغاً إذ كانت البلاغة تشتمل على الفصاحة وزيادة لتعلق البلاغة مع الألفاظ بالمعاني‏.‏

فإذا كان قد مضى الكلام في الألفاظ على الآنفراد والاشتراك فلنذكر الآن الكلام على المعاني مفردة من الألفاظ ليكون هذا الكتاب كافياً في العلم بحقيقة البلاغة والفصاحة فإنهما وإن تميزا من الوجه الذي ذكرته فهما عند أكثر الناس شئ واحد ولا يكاد يفرق بينهما إلا القليل والله يمن بالمعونة والتسديد برحمته‏.‏

الكلام في المعاني مفردة أما حصر المعاني بقوانين تستوعب أقسامها وفنونها على حسب ما ذكرناه في الألفاظ فعسير متعب لا يليق بهذا الكتاب تكلفه لأنه ثمرة علم المنطق ونتيجة صناعة الكلام ولسنا بذاهبين في هذا الكتاب إلى تلك الأغراض والمطالب‏.‏

ولكن نحتاج إلى أن نومئ إلى المعاني التي تستعمل في صناعة تأليف الكلام المنظور والمنثور ونبين كيف يقع الصحيح فيها والفاسد والتام والناقص على أن من كان سليم الفكر صحيح التصور لم يخف عنه شئ مما تستر النفوس وإن كان قد يخفى عنه كثير مما ذكرناه من الكلام والألفاظ لأن في الألفاظ مواضعة واصطلاحاً يختلف الناس في المعرفة بهما بحسب اختلافهم في معرفة اللغة وفهم الاصطلاح والمواضعة والمعاني ليس فيها شئ من ذلك‏.‏

وإنما معيارها العقل والعلم وصفاء الذهن في الوجود وهي أربعة مواضع الأول وجودها في أنفسها والثاني وجودها في إفهام المتصورين لها والثالث وجودها في الألفاظ التي تدل عليها‏.‏

والرابع وجودها في الخط الذي هو أشكال تلك الألفاظ المعبر بها عنه وإذا كان هذا مفهوماً فإنا في هذا الموضع إنما نتكلم على المعاني من حيث كانت موجوة في الألفاظ التي تدل عليها دون الأقسام الثلاثة المذكورة ثم ليس نتكلم عليها من حيث وجدت في جميع الألفاظ بل من حيث توجد في الألفاظ المؤلفة المنظومة على طريقة الشعر والرسائل وما يجرى مجراهما فقط إذ كان ذلك هو مقصودنا في هذا الكتاب‏.‏

وإذا بان هذا فإن الأوصاف التي تطلب من هذه المعاني‏:‏ هي الصحة والكمال والمبالغة والتحرز مما يوجب الطعن والاستدلال بالتمثيل والتعليل وغيرهما وسنذكر من أمثلة ذلك ما يعرب عن قصدنا ويوضح مرادنا‏.‏

أما الصحة في التقسيم‏:‏ فإن تكون الأقسام المذكورة لم يخل بشئ منها ولا تكررت ولا خدل بعضها تحت بعض ومثال هذا في النظم قول نصيب‏:‏ فقال فريق القوم لا وفريقهم نعم‏!‏ وفريق قال ويحك ما ندري فليس في أقسام الإجابة عن مطلوب إذا سئل عنه غير هذه الأقسام ومنه قول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار وشدة وطئه الأرض‏:‏ متى ما تقع أرساغه مطمئنة على حجر يرفض أو يتدحرج فليس في أمر الوطء الشديد إلا أن يكون الذي يوطأ رخوا فيرض أو صلباً فيندفع ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى‏:‏ يطعنهم ما ارتموا حتى إذا أطعنوا ضارب حتى إذا ما ضاروبا اعتنقا وهذا تقسيم صحيح ومنه قول الحارثي‏:‏ وما أسكن الأرض التي تسكنينها لئلا يقولوا صابر ليس يجزع فلا كمدي يغنى ولا لك ذمة ولا عنك إقصار ولا فيك مطمع لقيت أموراً فيك لم ألق مثلها وأعظم منها منك ما أتوقع وهذا كلها أقسام صحيحة‏.‏

ومن أمثلة ذلك في النثر قول بعضهم في كتاب له‏:‏ فإنك لم تخل فيما بدأتني به من مجد أثلته أو شكر تعلجته أو أجر ادخرته أو متجر اتجرته أو من أن تكون جمعت ذلك كله فلم يبق في هذا المعنى قسم لم يأت به ولا من الأقسام شئ تكرر‏.‏

فأما الأقسام الفاسدة فكقول جرير‏:‏ صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها فهذه قسمة فاسدة من طريق الاخلال لأنه قد أخل بقسم من الثلاثة‏.‏

قيل‏:‏ إن بعض بنى حنيفة سئل من أي الأثلاث هو من بيت جرير فقال‏:‏ هو من الثلث الملغة‏!‏ ومنها قول أبي تمام‏:‏ قسم الزمان ربوعها بين الصبا وقبولها ودبورها أثلاثاً فهذا فاسد من طريق التكرار لأن القبول هي الصبا على ما ذكره جماعة من أهل اللغة‏.‏

ومن ذلك أيضاً قول هذيل الأشجعي‏:‏ فما برحت تومى إلي بطرفها وتومض أحياناً إذا خصمها غفل أبادر إهلاك مستهلك لمالي أو عبث العابث فهذا فاسد لدخول أحد القسمين في الآخر لأن عبث العابث داخل في استهلاك المستهلك‏.‏

ومن هذا الجنس‏:‏ أن بعض المتخلفين سأل مرة قال علقمة بن عبدة جاهلي أو من بني تميم فضحك منه لأن الجاهلي قد يكون من بني تميم ومن بني عامر والتميمي قد يكون جاهلياً وإسلامياً‏.‏

وكتب بعضهم إلى عامل من قبله‏:‏ ففكرت مرة في عزلك وأخرى في صرفك وتقليد غيرك وكتب أيضاً في هذا الكتاب‏:‏ فتارة تسترق الأموال وتختزلها وتاة تقتطعها وتحتجنها‏.‏

وهذا مثل الأول في التكرير‏.‏

وكتب آخر في فتح فقال‏:‏ فمن بين جريح مضرج بدمائه وهارب لا يلتفت إلى ورائه‏.‏

وهذان القسمان يدخل كل واحد منهما في الآخر لأن الجريح قد يكون هاربا والهارب قد يكون جريحاً‏.‏

وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر‏:‏ أن ابن منارة وقع على ظهر رقعة عامل من عماله هرب من صارفه - وكتب إليه رقعة يعلم بها ما عنده -‏:‏ إنك لا تخلو في هربك من صارفك من أن تكون قدمت إليه اساءة خفت منه معها أو خنت في عملك خيانة رهبت تكشفه إياك عنها فإن كنت أسأت فأول راض سنة من يسيرها وإن كنت خنت خيانة فلا بد من مطالبتك بها‏.‏

فكتب العامل تحت هذا التوقيع‏:‏ قد بقي من الأقسام ما لم تذكره - وهو أني خفت ظلمة إياي بالبعد عنك وتكثيره على بالباطل عندك ووجدت الهرب إلى حيث يمكنني فيه دفع ما يتخرصه أنفي للظنة عني والبعد عمن لا يؤمن ظلمه أولى بالاحتياط لنفسي فوقع ابن منارة تحت ذلك‏:‏ قد أصبت فصر إلينا آمناً بالاحتياط لنفسي فوقع ابن منارة تحت ذلك‏:‏ قد أصبت‏.‏

فصر إلينا آمناً من ظلمة عاجلاً على أن ما يصح عليك فلا بد من مطالبتك به وقد ذهب أبو القاسم الآمدي إلى فساد القسمة من قول أبي عبادة البحتري‏:‏ ولا بد من ترك أحدى اثنتين إما الشباب وإما العمر قال‏:‏ لأن ها هنا قسماً آخر وهو أن يتركا معاً فيموت الأنسان شاباً‏.‏

وأجاب الشريف المرتضى رضى الله عنه عن ذلك‏:‏ بأن المراد بترك الشباب تركه بالشيب وبترك العمر تركه بالموت وهذا هو المستعمل المألوف في هذه الألفاظ فمن مات شاباً فلا يقال عنه أنه ترك الشباب لأنه لم يشب وإنما يقال عنه أنه ترك العمر فدخل في أحد القسمين‏.‏

ولى في هذا الموضع نظر وتأمل‏.‏

ومن الصحة تجنب الاستحالة والتناقض‏:‏ وذلك أن يجمع بين المتقابلين من جهة واحدة‏.‏

والتقابل يكون على أربع جهات أما على طريق المضاف وهو الشيء الذي يقال بالقياس إلى غيره مثل الضعف بالقياس إلى نصفه والأب إلى ابنه والمولى إلى عبده وأما على طريق التضاد مثل الأبيض والسود والشرير والخير وأما على طريق العدم والقنية كالأعمى والبصير والأمرد وذي اللحية وأما على طريق النفى والاثبات مثل أن يقال زيد جالس زيد ليس بجالس‏.‏

فإذا ورد في الكلام جمع بين متقابلين من هذه المتقابلات من جهة واحدة فهو عيب في المعنى والمراد بقولنا من جهة واحدة أن لا يكون المتقابلان من جهتين فإنهما إذا كانا من جهتين لم يكن الكلام مستحيلا مثال ذلك أن يقال‏:‏ العشرة ضعف ونصف لكنها ضعف الخمسة ونصف العشرين فيكون هذا صحيحاً لأنه تقابل من جهتين فأما لو كان من جهة واحدة حتى يقال‏:‏ إن العشرة ضعف الخمسة ونصفها لكان ذلك محالا وكذلك يقال في المتقابلين بالعدم والقنية زيد أعمى العين بصير القلب فيكون ذلك صحيحاً فأما لو قيل زيد أعمى العين بصير العين كان ذلك محالا وكذلك في التضاد أن يقال‏:‏ الفاتر حار عند البارد وبارد عند الحار ولا يكون حاراً بادراً عند أحدهما وزيد كريم بالطعام بخيل بالثياب ولا يصح أن يقال كريم بالثياب بخيل بها‏.‏

وإذا كان هذا مفهوماً فالذي يقع في النظم والنثر من هذا التناقض على هذا النحو عيب في المعاني بغير شك وإن كانوا قد تسمحوا في الشعر أن يكون في البيت شيء وفي بيت آخر ما ينقضه حتى يذم في بيت شئ من وجه ويمدح في بيت آخر من ذلك الوجه بعينه وإنما أجازوا هذا لأنهم اعتقدوا أن كل بيت قائم بنفسه فجرى البيتان مجرى قصيدتين‏.‏

فكما جاز للشاعر أن يناقض في قصيدتين كذلك جاز له أن يناقض في بيتين ولم يختلفوا في أن البيت إذا ولى البيت وكان معنى كل واحد منهما متعلقاً بالآخر فلن يجوز أن يكون في أحدهما ما يناقض الآخر وإنما أجازوا ذلك مع عدم الاتصال والتعلق على أن تجتنب هذا في القصيدة - وإن كانوا قد أجازوه - أحسن وأولى‏.‏

وقد قال أبو عثمان الجاحظ‏:‏ إن العرب تمدح الشئ وتذمه لكنهم لا يمدحون الشيء من الوجه الذي يذمونه به‏.‏

وما أحسن ما قال أبو عثمان‏:‏ لعمري أنهم على ذلك يتصرف قولهم وإن أبا تمام لما وصف يوم الفراق بالطول فقال‏:‏ يوم الفراق لقد خلقت طويلا لم تبق لي جلداً ولا معقولا قالوا الرحيل فما شككت بأنها نفسي من الدنيا تريد رحيلا علل طوله بما لقى فيه من الوجد لرحيل أحبابه عنه وأبو عبادة لما وصفه بالقصر فقال‏:‏ ولقد تأملت الفراق فلم أجد يوم الفراق على امرئ بطويل قصرت مسافته على متزود منه لدهر صبابة وغليل علل قصره بأنه اجتمع فيه بمن يحبه للوداع وتزود منه لأيام البعد عنه‏.‏

فهما وإن كان كل واحد منهما قد خالف صاحبه في مدح الفراق وذمه فقد ذكر لما ذهب إليه وجهاً يصح به وعلى هذا الطريق يحسن وقوع الخلاف في أغراض الشعراء إلا أن يكون أحد القولين صحيحاً والآخر فاسداً‏.‏

فأما المتناقض في العشر فكقول عبد الرحمن بن عبد الله القس‏:‏ أرى هجرها والقتل مثلين فأقصروا ملامكم فالقتل أعفى وأيسر فقال هذا الشاعر‏:‏ إن الهجر والقتل مثلان ثم سلبهما ذلك فقال‏:‏ إن القتل أعفى وأيسر فكأنه قال إن القتل مثل الهجر وليس هو مثله وذلك متناقض ولو كان استوى له أن يقول بل القتل أعفى وأيسر لكان الشعر مستقيماً لأن لفظة بل تنفى الماضي وتثبت المستأنف كما قال زهير‏:‏ حي الديار لم يعفها القدم بلى وغيرها الأرواح والديم على أنهم قد عابوا هذا البيت على زهير لكنه بمجئ بلى فيه لم يكن عندي فاسدا وقد يمكن فيه من التأويل وجه آخر‏:‏ وهو أن زهيراً قال لم يعفها القدم وغيرتها الريح والأمطار وليس ذلك بمتناقض لأن التغير دون أن تعفو والقدم غير الريح والمطر‏.‏

ومن قال‏:‏ لم يقتل زيد عمراً بل ضربه بكر لم يكن متناقضا وإنما المناقضة أن يقول‏:‏ لم يقتل زيد عمراً وقتله زيد ويكون الأول هو الثاني وهذا واضح‏.‏

ومن الاستدلال قول الآخر‏:‏ أليس قليلاً نظرة إن نظرتها إليك وكلا ليس منك قليل تراه إذا ما أبصر الضيف مقبلاً يكلمه من حبه وهو أعجم من المتناقض لأنه اقنى الكلب الكلام في قوله يكلمه ثم أعدمه إياه عند قوله‏:‏ إنه أعجم وهذا غلط من أبي الفرج طريف لأن الأعجم ليس هو الذي قد عدم الكلام جملة كالأخرس وإنما هو الذي يتكلم بعجمة ولا يفصح قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ‏"‏‏.‏

وإذا قيل‏:‏ فلان يتكلم وهو أعجم لم يكن ذلك متناقضا على أن الرواية الصحيحة في بيت ابن هرمة‏:‏ يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً وهذا البيت من إحسان ابن هرمة المشهور وكذلك ذهب أبو القاسم الآمدي إلى تناقض بيت أبي تمام في صفة الفرس‏:‏ وبشعلة تبدو كأن فلولها في صهوتيه بدو شيب المفرق مسود شطر مثل ما اسود الدجى مبيض شطر كابيضاض المهرق قال‏:‏ لأنه ذكر في البيت الأول إنه اشعل ثم قال في الثاني‏:‏ إن نصفه أسود ونصفه أبيض وذلك هو الأبلق فكيف يكون فرس واحد أشعل أبلق وهذا من أبي القاسم تحامل على أبي تمام لأنه يصف فرساً أشعل ويريد بقوله‏:‏ إنه مسود شطر ومبيض شطر أن سواده وبياضه متكافئان فلو جمع السواد لكان نصفه وكذلك البياض وهذا الوصف من تكافي السواد والبياض في الأشعل محمود حتى أن النخاسين يقولون‏:‏ أشعل شعرة شعرة فعلى هذا لا يكون شعر أبي تمام من المتناقض ومما يعترض الشك فيه قول أبي العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان‏:‏ ولقد سلوت عن الشباب كما سلا غيري ولكن للحزين تذكر فيقال كيف يجوز أن يسلو وهو حزين يتذكر وقد قرأت هذا البيت عليه في جملة شعره ولم أسأله عنه والذي يحتمل عندي من التأويل أنه أراد بالسلو ها هنا اليأس ورفض الطمع فكأنه قال‏:‏ قد يئست من الطمع للشباب كما أيس غيري ولكني حزين عليه أتذكره وهذا وجه قريب‏.‏

وذهب أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب إلى تناقض قول أبي نواس في صفة الخمر‏:‏ كأن بقايا ما عفا من حبابها تفاريق شيب في سواد عذار تردت به ثم انفرى عن أديمها تفرى ليل عن بياض نهار وقال‏:‏ إنه وصف في البيت الأول الحباب بالبياض حين شبهه بالشيب ولن يشبه الشيب في شئ إلا في بياضه ووصف الخمر بالسواد حين شبهها بسواد العذار ثم وصف الحباب في البيت الثاني بالسواد حين شبهه يتفرى الليل ووصف الخمر بالبياض حين قال بياض نهار وكون كل واحد من الحباب والخمر أسود وأبيض مستحيل‏.‏

وقد سأل أو الفرج نفسه فقال أن قيل‏:‏ إنه لم يصف الحباب في البيت الثاني بالسواد وإنما شبهه بالليل في تفريه وانحساره عن النهار دون نفس اللون‏.‏

وأجاب عن هذا‏:‏ بأن أبا نواس قد صرح بأنه لم يرد غير اللون فقط لقوله عن بياض نهار‏.‏

وفي هذا الشعر نظر وتأمل ليس هذا موضع تقصيه وإنما الغرض هنا التمثيل‏.‏

وقد فرق بين المستحيل والممتنع‏:‏ بأن المستحيل هو الذي لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم مثل كون الشئ أسود أبيض وطالعاً نازلاً فإن هذا لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم والمتمتنع‏:‏ هو الذي يمكن تصوره في الوهم وإن كان لا يمكن وجوده مثل أن يتصور تركيب بعض أعضاء الحيوان من نوع في نوع آخر منه كما يتصور يد أسد في جسم إنسان فإن هذا وإن كان لا يمكن وجوده فإن تصوره في الوهم ممكن وقد يصح أن يقع الممتنع في النظم والنثر على وجه المبالغة ولا يجوز أن يقع المستحيل البتة فأما قول أبي عبادة‏:‏ لما مدحتك وأفاني نداك على أضعاف ظني فلم أظفر ولم أخب فليس هذا من المتناقض لأنه من جهتين على ما ذكرناه فيما تقدم ألا ترى أن معناه لم أظفر بنفس ما ظننته لأنك زدت عليه فكأن ظنى لم يصدق لأنه لو صدق لكان وقع على ما ظننته بعينه من غير زيادة عليه ولم أخب لأنك قد أعطيتني ومن أعطى فما خاب وهذا صحيح ومن المتناقض على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القس‏:‏ وإني إذا ما الموت حل بنفسها يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر لأنه وضع هذا القول وضع الشرط وجعل جوابه يزال بنفسي‏.‏

ثم قال‏:‏ قبل ذاك فكأنه قال أن نفسي تزول بعد نفسها وقبلها وهذا مثل قول القائل‏:‏ إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله وذلك متناقض‏.‏

وقد ذهب أبو القاسم الآمدي إلى مناقضة أبي تمام في قوله‏:‏ ارزق لا تكمد عليه فإنه يأتى ولم تبعث إليه رسولا وقوله بعده في صفة الناقة‏:‏ لله درك أي معبر قفرة لا يوحش أنب البيضة ألا جفيلا بنت القفار متى تخدبك لا تدع في الصدر منك على الفلاة غليلا قال‏:‏ لأنه صرح في البيت الأول بذكر القعود عن طلب الرزق وأتبعه في البيت الثاني بلا فصل بذكر الناقة وصفتها والرحيل عليها فكان ذلك مناقضة ظاهرة‏.‏

ومن الصحة أن لا يضع الجائز موضع الممتنع فإنه يجوز أن يضع الممتنع موضع الجائز إذ كان في ذلك ضرب من الغلو والمبالغة ولا يحسن أن يوضع الجائز موضع الممتنع لأنه لا علة لجواز ذلك وهو ضد ما يحمد من الغلو والمبالغة في الشعر‏.‏

ومن أمثلة هذا قول الشاعر‏:‏ فبنى الكلام على أن العود في الأكثر يكون حلواً بقوله‏:‏ فربما وليس الأمر كذلك بل العود الأخضر في الأكثر من وكأن هذا الشاعر وضع الأكثر موضع الأقل وذلك غلط في المعنى‏.‏

ومنه ما أنكره أبو القاسم الآمدي على أبي تمام في قوله يمدح الواثق بالله‏.‏

جعل الخلافة فيه رب قوله سبحانه للشئ كن فيكون قال‏:‏ لأن مثل هذا إنما يقال في الأمر العجب الذي لم يكن يقدر ولا يتوقع ولا يظن إنه مثله يكون فيقال إذا وقع ذلك قدرة قادرة واحد وفعل من لا يعجزه أمر وتلك واحد ومن يقول للشئ كن فيكون فأما الأمور التي لا يتعجب منها ولا تستغرب والعادات جارية بها وبما أشبهها فلا يقال فيها مثل هذا وإنما يسبح الله تبارك وتعالى وتذكر قدرته على تكوين الأشياء لو جاؤا بأبي العبر أو بجحا فجعلوه خليفة‏.‏

فأما الواثق فما وجه تسبيح أبي تمام في أن أفضت الخلافة إليه وأبوه المعتصم وجده الرشيد وجد أبيه المهدي وجد جده المنصور وأخو جد جده السفاح وعماه خليفتان الأمين والمأمون وعم أبيه الهادي فذلك ثمانية خلفاء هو تاسعهم‏.‏

وهذا الذي ذكره أبو القاسم صحيح واضح‏.‏

ومن الصحة‏:‏ صحة التشبيه وهو أن يقال أحد الشيئين مثل الآخر في بعض المعاني والصفات ولن يجوز أن يكون أحد الشيئين مثل الآخر من جميع الوجوه حتى لا يعقل بينهما تغاير البتى لأن هذا لو حاز لكان أحد الشيئين هو الآخر بعينه وذلك محال‏.‏

وإنما الأحسن في التشبيه أن يكون أحد الشيئين يشبه الآخر في اكثر صفاته ومعانيه وبالضد حتى يكون ردئ التشبيه ما قل شبهه بالمشبه به وقد يكون التشبيه بحروفه كالكاف وكأن وما يجرى مجراهما وقد يكون بغير حرف على ظاهر المعنى ويستحسن ذلك لما فيه من الإيجاز‏.‏

والأصل في حسن التشبيه‏:‏ أن يمثل الغائب الخفي الذي لا يعتاد بالظاهر المحسوس المعتاد فيكون حسن هذا لأجل إيضاح المعنى وبيان المراد أو يمثل الشئ بما هو أعظم وأحسن وأبلغ منه فيكون حسن ذلك لأجل الغلو والمبالغة‏.‏

ومما ورد في القرآن من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ‏"‏‏.‏

وقوله ‏"‏ عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ‏"‏ تعالى‏:‏ (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) ‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ‏"‏‏.‏

وقوله جل وعز‏:‏ ‏"‏ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ‏"‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ‏"‏‏.‏

وقوله جل وعز‏:‏ ‏"‏ وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام ‏"‏‏.‏

وهذه التشبيهات كلها على ما بيناه من تشبيه الخفي بالظاهر المحسوس والذي لا يعتاد بالمعتاد لما في ذلك من البيان إلا قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام ‏"‏‏.‏

فانه شبه الشئ بما هو أعظم منه على وجه المبالغة‏.‏

ومن التشبيه في العشر قول النابغة الذبياني‏:‏ فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المتنأي عنك واسع وهذا التشبيه يجمع المقصودين من الظهور والمبالغة وأما الظهور فلأن علم الناس بأن الليل لا بد من إدراكه له أظهر من علمهم بأن النعمن لا بد من إدراكه له وأما المبالغة فإن تشبيهه بالليل الذي لا يصددونه حائل أعظم وأفخم وأبلغ في المدح‏.‏

ومن التشبيه أيضاً قول يزيد بن عوف العليمي يذكر صوت جرع رجل قراه اللبن‏:‏ فعب دخالا جرعه متواتر كوقع السحاب بالطراف الممدد وهذا تشبيه جيد لأنه شبه صوت اللبن على عصب المرئ من حلق الإنسان بصوت المطر على الخباء المصنوع من الأدم وذلك من أصح التشبيه لأن المرئ من جنس الأدم واللبن من جنس الماء فصوتاهما متشابهان لأن السبب في اختلاف الأصوات تخالف الأجسام التي تحدث فيها والغرض في هذا التشبيه المبالغة‏.‏

ومن التشبيه المختار قول امرئ القيس‏:‏ كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي وهذا من التشبيه المقصود به أيضا الشيء لأن مشاهد العناب والحشف البالي أكثر من مشاهد قلوب الطير رطبة ويابسة‏.‏

وروى عن بشار بن برد إنه قال‏:‏ ما زلت منذ سمعت بيت امرئ القيس هذا اطلب أن يقع لي تشبيهان في بيت واحد حتى قلت‏:‏ كأن مثار النقع فوق رءوسهم وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فشبهن النقع بالليل والسيوف بالكواكب وهذا تشبيه للمبالغة والتفخيم ومن التشبيه المختار قول عدى بن الرقاع العاملي‏:‏ وكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جاذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم وقوله أيضاً‏:‏ تزجى أغن كأن إبرة روقه قلم أصاب من الدواة مدادها وخلا الذباب بها فليس ببارح غردا كفعل الشارب المترنم هزجاً يحك ذراعه بذراعه قدح المكب على الزناد الاجذم وقول الحسن بن مطير الأسدي‏:‏ في عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا وقال الطرماح‏:‏ يبدو وتضمره البلاد كأنه سيف على شرف يسل ويغمد وقول أبي الحسن التهامي‏:‏ والصبح قد غمر النجوم كأنه سيل طغى فطفا على النوار وقول ابي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان‏:‏ والخل كالماء يبدي لي ضمائره مع الصفاء ويخفيها مع الكدر وقوله‏:‏ وسهيل كوجنة الحب في اللو ن وقلب المحب في الخفقان يسرع اللمح في احمرار كما تسرع في اللحظ مقلة الغضبان وقوله‏:‏ وهذه تشبيهات صحاح وأمثالها كثيرة وقد وإلى أبو القاسم محمد ابن هانئ الأندلسي التشبيه بكأن في أبيات كثيرة فقال‏:‏ كأن رقيب النجم أجدل مرقب يقلب تحت الليل في ريشه طرفا كأن بني نعش ونعشاً مطافل بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا كأن سهيلاً في مطالع افقه مفارق إلف لم يجد بعده إلفا كأن سهاها عاشق بين عود فاونة يبدو واونة يخفا كأن معلى قطبها فارس له لوان مركوزان قد كره الزحفا كأن قدامى النسر والنسر واقع قصصن فلم تسم الخوافي به ضعفا كأن أخاه حين دوم طائراً أني دون نصف البدر فاختطف النصفا كأن الهزيع الأبنوسي آونا سرى بالنسيج الخسرواني ملتفا كأن ظلام الليل إذا مال ميلة صريع مدام بات يشربهان صرفا كأن عمود الصبح خاقان معشر من الترك نادى بالنجاشي فاستخفا كأن لواء الشمس غرة جعفر رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا وقول النابغة‏:‏ نظرت إليك بحاجة لم تقضها نظر المريض إلى وجوه العود وقوله أيضاً‏:‏ فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقول أبي عبادة‏:‏ يهوى كما تهوى العقاب وقد رأت صيداً وتنتصب انتصاب الأجدل وقول أبي نصر بن نباتة وقد يذكر في التمثيل‏:‏ خلقنا بأطراف القنا لظهورهم عيوناً لها وقع السيوف حواجب وقول أخت ذى الكلب‏:‏ تمشى النسور إليه وهي لاهية مشى العذارى عليهن الجلابيب وقول ديك الجن‏:‏ سفرن بدوراً وانتقبن أهلة ومسن غصوناً والتفتن جاذرا وقول الوأواء الدمشقي‏:‏ فاسبلت لؤلؤا من نرجس وسقت ورداً وعضت على العناب بالبرد وقول أبي إسحاق الصابي يصف الطير التي تصاد بالبندق‏:‏‏:‏ - محمولة على حكم الكفار إذ يقتلون ومصيرهم إلى النار‏.‏

ومما يحتاج إليه التشبيه‏:‏ أن يكون الأمر المشبه به واقعاً مشاهداً معروفاً غير مستنكر ليوافق ذلك المقصود بالتشبيه والتمثيل من الإيضاح والبيان ولهذا عاب نصيب على الكميت قوله‏:‏ كأن الغطامط من غليها أراجيز أسلم تهجو غفارا وقال له‏:‏ أخطأت ما هجت أسلم غفارا قط وأراد نصيب من الكميت أن يكون شبه بشئ واقع معروف وهذا كما يقال‏:‏ كان مناقضة فلان وفلان مناقضة جرير والفرزدق‏.‏

فيكون هذا الكلام صحيحاً‏.‏

ولو قيل‏:‏ كأن مناقضتهما مناقضة الأحوص وعمر بن أبي ربيعة لم يكن ذلك التشبيه صحيحاً‏.‏

إذ كان المشبه به لم يقع وعلى هذا أكره قول علقمة ابن عبدة‏:‏ كأن إبريقهم ظبى على شرف مقدم بسبا الكتان ملثوم على أن يكون مقدم من صفة الظبي لأن الظبي لا يكون مقدماً بسب الكتان ملثوما فكأن التشبيه وقع بما لا يشاهد ولا يعرف وإن كان المقدم راجعاً إلى الإبريق فذلك صحيح وكذلك قول الحكم‏:‏ كانت بنو غالب لأمتها كالغيث في كل ساعة يكف فإن العادة لم تجر بأن الغيث يكف في كل ساعة وإن كان هذا البيت يحتمل من التأويل أن يكون معناه كان هؤلاء القوم كالغيث إلا أنه غيث يكف كل ساعة وإن لم يدل لفظه على هذا المعنى دلالة واضحة ومن هذا الفن‏.‏

قول أيمن‏:‏ فإننا قد وجدنا أم بشر كأم الأسد مذكاراً ولودا لأن أم الأسد ليست كذلك‏.‏

وأما ردى التشبيه فكقول المرار‏:‏ وخال على خديك يبدو كأنه سنا البدر في دعجاء باد دجونها لأن الخدود بيض والمتعارف أن يكون الخال أسود فتشبيه الخدود بالليل والخال بضوء البدر تشبيه ناقض للعادة‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد مضى في كلامكم أن المشبه به يجب أن يكون معروفاً واضحاً أبين من الشئ الذي يشبه فما تقولون في قوله تعالى في شجرة الزقوم‏:‏ ‏"‏ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين ‏"‏ ورؤوس الشياطين غير مشاهدة‏.‏

قيل‏:‏ إن الزقوم غير مشاهد ورؤس الشياطين غير مشاهدة إلا أنه قد استقر في نفوس الناس من قبح الشياطين بما صار بمنزلة المشاهد حتى أنهم إذا شبهوا وجهاً بوجه الحور كان تشبيها صحيحاً وإن كانت الحور لم تشاهد ولم يستقر في نفوسهم قبح طلع الزقوم كما استقر في نفوسهم قبح رؤوس الشياطين فكأن المشبه به أوضح وفي رؤوس الشياطين أيضاً من المبالغة في القبح ما ليس في طلع الزقوم‏.‏

وقد قيل في بعض التفاسير‏:‏ إن الشياطين هنا الحيات‏.‏

وعلى هذا القول يسقط السؤال لأن الحيات مشاهدة‏.‏

ومن ظريف التشبيه قول ابن هرمة‏:‏ وإن وتركي ندى الأكرم ين وقدحى بكفى زناداً شحاحا كتاركة بيضها بالعر اء وملبسة بيض أخرى جناحا وقول الفرزدق‏:‏ وإنك إذ تهجو تميما وترتشى سرابيل قيس أو سحوق العمائم كمهريق ماءٍ بالفلاة وغره سارب أذاعته رياح السمائم فإن بيت ابن هرمة الثاني يليق بييت الفرزدق الأول وبيت الفرزدق الثاني يليق ببيت ابن هرمة الأول حتى لو أن ابن خرمة قال‏:‏ وإني وتركي ندى الأكرم ين وقدحي بكفي زناداً شحاحاً كمهريق ماء بالفلاة وغره سراب أذاعته رياح السمائم # وإنك إذ تهجو تميما وترتشي سرابيل قيس أوسحوق العمائم كتاركة بيضها بالعر اء وملبسة بيض أخرى جناحا لكان كل واحد منهما قد شبه تشبيهاً واضحاً صحيحاً فأما والشعر على ما هو عليه فإن التشبيه بعيد‏.‏

ومن الصحة‏:‏ صحة الأوصاف في الأعراض وهو أن يمدح الإنسان بما يليق به ولا ينفر عنه فيمدح الخليفة بتأييد الدين وتقويه أمره ومحبة الناس وطاعتهم والتقى والورع والرحمة والرأفة وإقامة العدل وشرف الحسب وحسن السياسة والتدبير والاضطلاع بالأمور والحلم والعفو والعلم وحفظ الشرع والجمال والبهاء والهيبة والشجاعة وكرم الأخلاق ولينها وما يجري هذا المجرى‏.‏

ويمدح الوزير والكاتب وبالعقل والحلم وسداد الرأي وحسن التدبير والبلاغة وتثمير الأموال والعدل والكرم وما يلحق بهذا‏.‏

ويمدح الأمير وقائد الجيش بالشجاعة والمعرفة بالحرب وحسن النقيبة والظفر والصبر وسداد التدبير وما أشبه ذلك وعلى هذا السبيل يجرى الأمر في النسيب فيذكر فيه صدق الهوى والمحبة وشدة الوجد والصبابة وكتمان الأسرار ومخالفة العذال وما يتفرع عن ذلك ويلحق به‏.‏

وكذلك في كل غرض من الأغراض الشعرية من هجاء وفخر وعتاب ووصف وغير ذلك حتى يكون كل شئ موضوعا في المكان الذي يليق به‏.‏

فأما النثر فيجرى على هذا المنهاج ويحتاج فيه إلى معرفة المواضعات في الخطاب والاصطلاحات فإن للكتب السلطانية من الطريقة ما لا يستعمل في الإخوانيات وللتوقيعات من الأساليب ما لا يحسن في التقاليد وهذا الباب أعنى المواضعة والاصطلاح في الخطاب يتغير بحسب تغير الأزمنة والدول فإن العادة القديمة قد هجرت ورفضت والتسجد الناس عادة بعد عادة حتى أن الذي يستعمل اليوم في الكتب غير ما كان يستعمل في أيام أبي إسحاق الصابي مع قرب زمانه منا وإذا كان الأمر على هذا جارباً فليس يصح لنا أن نضع رسموماً نوجب اقتفاءها لأنا نحن في هذا الزمان قد غيرنا الرسم المتقدم لمن قبلنا وكذلك ربما جرى الأمر فيما بعدنا لكن أصول الأغراض في الأوصاف والمعاني مما لا تتبدل ولا تتغير فليكن الائتمام بها واقعا والاجتهاد في جريها على قانون السداد والصواب حاصلا فقد عيب أبو عبادة في مديحه الخليفة بقوله‏:‏ لا العدل يردعه ولا ال تعنيف عن كرم يصده وقيل‏:‏ من هو الذي يجسر على عذل الخليفة وتعنيفه وليس هذا المدح مما يصلح للملوك والأمراء فضلا عن الأئمة والخلفاء وعيب أبو ذؤيب الهذلي في قوله يصف الفرس‏:‏ قصر الصبوح لها فشرج لحمها بالتي فهي تثوخ فيها الإصبع ذنب كما سحب الرداء يذب عن عرف وعرف كالقناع المسبل وقول امرئ القيس قبله‏:‏ لها ذنب مثل ذيل العرو من تسد به فرجها من دبر وقيل‏:‏ المحمود من ذنب الفرس أن يكون طويلاً ولا ينال الأرض كما قال امرؤ القيس‏:‏ كميت إذا استدبرته سد فرجه بضاف فويق الأرض ليس بأعزل وعيب جميل في قوله‏:‏ رمى في عيني بثينة بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوادح وقيل‏:‏ ليس هذا كلام صادق المحبة بل هذا دعاء مبغض قد تجاوز قدر السلوة وعيب عبد الرحمن القس في قوله‏:‏ سلام ليت لساناً تنطقين به قبل الذي نالني من صوته قطعا وقيل‏:‏ هذا غاية الغلظ والجفاء والمخالفة لعادة أهل الهوى وسمع أبو السائب المخزومى قول إسحاق الأعرج‏:‏ فلما بدالي ما رابني نزعت نزوع الأبى الكريم فقال‏:‏ قبحه الله والله ما أحبها ساعة قط وعيب على جرير قوله في بشر ابن مروان وقال بشر‏:‏ أما وجد ابن اللخناء رسولا غيري‏.‏

وعيب على أبي نواس قوله في الفضل بن يحيى‏:‏ سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد هواها لعل الفضل يجمع بيننا وقال له الفضل‏:‏ ما زاد على أن جعلني قوادا وعيب عل الأخطل قوله يهجو سويد بن منجوف‏:‏ وما جذع سوء خرب السوس وسطه لما حملته وائل بمطيق وقال سويد له‏:‏ أردت هجائي فمدحتني جعلت وائلا كلها حملتني أمرها وما طمعت في بني تغلب فضلا عن بكر وزدتني بني تغلب وعيب عليه أيضاً قوله يمدح سماكا الأسدي وهو من قوم يلقبون القيون -‏:‏ قد كنت أحسبه قيناً وأنبأه فاليوم طير عن أثوابه الشرر وقال سماك‏:‏ يا أخطل أردت مدحي فهجوتني كان الناس يقولون قولا فحققته وعيب عليه أيضاً قوله‏:‏ وقد جعل الله الخلافة فيكم لأزهر لا عارى الخوان ولا جدب وقيل‏:‏ ليس يليق هذا بمدح الخلفاء إنما يصلح للطبقة السفلى من الناس‏.‏

وعيب على كثير أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل وقيل‏:‏ لم أرد أن ينسى ذكرها حتى تتمثل له‏.‏

وعيب عليه قوله أيضاً‏:‏ فما روضة بالجون طيبة الثرى يمجح الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهناً وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها وقيل‏:‏ لو أن زنجية بخرت بمندل رطب لكانت أردانها طيبة وعيب على ذي المرة قوله في الناقة‏:‏ تصغى إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها تثب وقيل‏:‏ إذا كانت كما وصف رمت الراكب قبل أن يستوي على ظهرها‏.‏

وعيب على الأحوص قوله‏:‏ يقر بعيني ما يقر بعينها وأفضل شئ ما به العين قرت وقيل له‏:‏ إنه يقر بعينها أن تنكح افيقر ذلك بعينك وعيب عليه أيضاً قوله‏:‏ فإن تصلى أصلك وإن تبيني بهجر بعد وصلك لا أبالي وقيل له‏:‏ لو كنت فحلا لباليت‏.‏

وعيب على الفرزدق قوله‏:‏ أي رشاء يا جرير وماتح تدليت في حومات تلك القماقم وأوثق عند المردفات عشية لحاقاً إذا ما جرد السيف لامع وقيل‏:‏ جعلن قد سبقن بالغداة ولحقن بالعشى‏.‏

وعيب عليه أيضاً قوله‏:‏ طرقتك صائدًة القلوب وليس ذا وقت الزيادرة فارجعي بسلام تجرى السواك على أغر كأنه برد تحدر من متون غمام وقيل‏:‏ اي وقت لا تصلح فيه زيارة الحبيب ولما طردها لم وصفها وعيب على زهير قوله في الضفادع‏:‏ يخرجن من شربات ماؤها طحل على الجذوع يخفن الغم والغرقا وقيل‏:‏ الضفادع لا تخرج من الماء خوف الغم والغرق‏.‏

وعيب على أبي العتاهية قوله‏:‏ إني أعوذ من التي شغفت من الفؤاد بآية الكرسي وقيل‏:‏ إنما يستعاذ بآية الكرسي من الشياطين‏.‏

وعيب على أبي الطيب المتنبي قوله‏:‏ لو استطعت ركبت الناس كلهم إلى سعيد بن عبد الله بعرانا وقيل‏:‏ من جملة الناس أمه فكان ينبغي أن يركبها‏.‏

وعيب عليه أيضاً قوله‏:‏ ليت أنا إذا إرتحلت لك الخي ل وأنا إذا نزلت الخيام وقيل‏:‏ الخيام تعلو على الممدوح وعيب على امرئ القيس قوله‏:‏ وقيل‏:‏ كثرة شعر الناصية مذموم في الفرس وهو الغمم‏.‏

وعيب عليه أيضاً قوله‏:‏ أغرك منى أن حبك قاتلي وإنك مهما تأمري القلب يفعل وقيل‏:‏ إذا كان هذا لا يغر فماذا الذي يغر وعيب على أبي نواس قوله في السد‏:‏ كأنما عينه إذا نظرت نادرة الجفن عين مخنوق وقيل‏:‏ الأسد لا يوصف بجحوظ العين إنما يوصف بغؤورها‏.‏

وعيب على عبد الله بن السمط قوله‏:‏ أضحى امام الهدى المأمون مشتغلاً بالدين والناس بالدنيا مشاغيل وقيل‏:‏ ما زاد على أن جعله عجوزاً في محرابها وإذا كان مشتغلاً عن الدنيا فمن القائم بها وهو الخليفة وعيب على كعب بن زهير قوله‏:‏ ضخم مقلدها فعم مقيدها في خلقها عن بنات الفحل تفضيل وقيل‏:‏ إنما توصف النجائب بدقة المذبح وعيب على المسيب قوله‏:‏ وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم وقالوا‏:‏ الصيعرية للنوق لا للفجول وسمعه طرفة بن العبد وهو صبي فقال‏:‏ استنوق الجمل وعيب على المرقش الأصغر قوله‏:‏ صحا قلبه عنها سوى أن ذكرة إذا خطرت دارت به الأرض قائماً وقيل‏:‏ هذا من المتناقض لآن من يكون إذا ذكرت دارت به الأرض قائما ليس بصاح وعيب على عدى بن زيد قوله في صفة الخمر‏:‏ والمشرف الهندي يسقى به أخضر مضموماً بماء الخريص وقيل‏:‏ وصف الخمر بالخضرة وما وصفها أحد بذلك وعيب على الفرزدق قوله‏:‏ أبنى غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال لولا عطية لاجتدعت أنوفكم من بين الأم لحية وسبال وقيل‏:‏ كيف يهبهم له وهو يهجو بهذا الهجاء‏.‏

وقال عطية حين بلغه هذا الشعر ما أسرع ما ارتجع أخي في هبته وعيب على أبي تمام قوله‏:‏ رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه بكفيك ما ماريت في أنه برد وقيل‏:‏ وصف الحلم بالرقة وإنما يوصف بالعظم والثقل والرزانة وعيب عليه أيضاً قوله‏:‏ الود للقربى ولكن عرفه للأبعد الأوطان دون الأقرب وقيل‏:‏ لم منع ذوى القربى من عرفه وجعله في الأبعدين ودنهم وهلا كان عطاؤه عاماً للقريب لو كان في عاجل من آجل بدل لكان وعده من رفده بدل وقيل‏:‏ ولم لا يكون في العاجل من الآجل بدل‏.‏

والناس كلهم على اختيار العاجل وإيثاره وعيب عليه أيضاً قوله‏:‏ يقظ وهو أكثر الناس اغ ضاء على نائل له مسروق وقيل‏:‏ هذا هجو لأنه جعل نائله يؤخذ منه وجه السرقة وعيب على الفرزدق قوله‏:‏ ومن يأمن الحجاج والطير تتقى عقوبته إلا ضعيف العزائم وقال له الحجاج‏:‏ الطير تتقى الثوب وتتقى الصبي وأمثال هذا أكثر من أن تحصى مما وقع فيه فساد الأغراض والصفات‏.‏

وقد كان أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب يذهب إلى أن المدح بالحسن والجمال والذم بالقبح والدمامة ليس بمدح على الحقيقة ولا ذم على الصحة ويخطئ كل من يمدح بهذا ويذم بذاك ويستدل بانكار عبد الملك بن مروان على عبد الله بن قيس الرقيات قوله فيه‏:‏ يأتلفق التاج فوقه مفرقه على جبين كأنه الذهب وقوله له‏:‏ تقول في هذا وتقول لمصعب‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء وقد أنكر هذا المذهب على أبي الفرج أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي‏.‏

وقال إنه خالف فيه مذاهب الأمم كلها عربيها وأعجميتها لأن الوجه الجميل يزيد في الهيبة ويتيمن به ويدل على على الخصال المحمودة وهذا الذي ذكره أبو القاسم صحيح‏.‏

ولو لم يكن في ذلك إلا ما قد جبلت النفوس عليه من الميل إلى الوجوه الحسان لكفى وأغنى فإن كان قدامة يعتقد أن ذاك ليس بفضيلة لما كان الإنسان قد خلق عليه فهذا حكم جميع الفضائل النفسانية فإن الكريم قد خلق كريما والشجاع شجاعا والعاقل عاقلا وكما لا يقدر القبيح الوجه على أن يستبدل صورة غير صورته كذلك لا يقدر الجاهل على أن يستفيد عقلاً فوق عقله‏.‏

ويلزم قدامة لآن لا يجيز المدح بشرف النفس النسب وكرم الأصل لأن ذلك أيضاً يجرى مجرى الصور‏.‏

ولا صنيع للممدوح في شئ منهما والأمر في هذا ظاهر‏.‏

فأما إنكار عبد الملك بن مروان على ابن قيس الرقيات مدحه له بالتاج فإنما أنكره لأن التيجان كانت من زي ملوك العجم ولم يكن خلفاء العرب يعرفونها فقال له‏:‏ تمدحني كما تمدح ملوك الأعاجم وتمدح مصعباً كما تمدح الخلفاء‏.‏

والأمر على ما قال عبد الملك لأن مدح الخليفة بأنه شهاب من الله تعالى أبلغ من مدحه باعتدال التاج فوق مفرقه‏.‏

وهذا كما أنكر على كثير قوله فيه‏:‏ على ابن أبي العاصى دلاص حصينة أجاد المسدى نسجها فأذالها كنت المقدم غير لابس جنة بالسيف تضرب معلماً أبطالها أحسن من قولك فأراد عبد الملك في الموضعين المبالغة ومدحه بالأفضل والأحسن‏.‏

ومن الصحة‏:‏ صحة المقابلة في المعاني وهو أن يضع مؤلف الكلام معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض والمخالفة فيأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف على الصحة والأصل في هذه المناسبة فإن لها تأثيراً قوياً في الحسن ومن أمثله ذلك في النظم قول الطرماح‏:‏ أسرناهم وأنعمنا عليهم وأسقينا دماءهم الترابا فما صبروا لبأس عند حرب ولا ادوا لحسن يد ثوابا وهذه مقابلة صحيحة ومن ذلك أيضاً قول الآخر‏:‏ جزى الله خيراً ذات بعل تصدقت على عزب حتى يكون له أهل فإنا سنجزيها بمثل فعالها إذا ما تزوجنا وليس لها بعل وهذه أيضاً مقابلة صحيحة‏.‏

لأنه جعل في مقابلة أن تكون المرأة ذات بعل وهو لا زوج له أن يكون هو ذا زوج وهي لا بعل لها وقابل حاجته وهو عزب بحاجتها وهي عزبة‏.‏

ومن أمثلة ذلك في النثر قول أبي إسحاق الصابي‏:‏ وأن يخلد في بطون الصحائف غلطنا وغلطك في إحساننا واساءتك وحفظنا وإضاعتك وكتب بعضهم في كتاب له‏:‏ ولو أن الأقدار إذ رمت بك من المراتب إلى أعلاهنا بلغت من أفعال السؤدد إلى ما وازاها فوازيت بمساعيك مراقيك وعادلت النعمة بك بالنعمة فيك ولكنك قابلت سمو الدرجة بدنو الهمة ورفيع الرتبة بوضيع الشيمة فعاد علوك بالاتفاق إلى حال دنوك بالاستحقاق وصار جناحك في الانتهاض إلى مثل ما عليه قدرك في الانخفاض ولا لوم على القدر أذنت فيك وأناب وغلط فعاد إلى الصواب وهذا كلام معانيه متقابلة على الصحة ومن ذلك قول هند بنت النعمان‏:‏ شكرتك يد نالتها خصاصة بعد نعمة ولا ملكتك يد نالت ثروة بعد فاقة‏.‏

فأما فساد المقابلة فكقول أبي عدى القرشي‏:‏ يا ابن خير الأخيار من عبد شمس أنت زين الدنا وغيث الجنود فليس غيث الجنود مقابلاً لزين الدنيا ولا موافقاً‏.‏

ومن الصحة‏:‏ صحة النسق والنظم وهو أن يستمر في المعنى الواحد وإذا أراد أن يستأنف معنى آخر أحسن التخلص إليه حتى يكون متعلقاً بالأول وغير منقطع عنه ومن هذا الباب خروج الشعراء من النسيب إلى المدح فإن المحدثين أجادوا التخلص حتى صار كلامهم في النسيب متعلقاً بكلامهم في المدح لا ينقطع عنه فأما العرب المتقدمون فلم يكونوا يسلكون هذه الطريقة وإنما كان أكثر خروجهم من النسيب إما منقطعاً وإما مبنياً على وصف الإبل التي ساروا إلى شقائق يحملن الندى فكأنه دموع التصابي في خدود الخرائد كأن يد الفتح بن خاقان أرفلت تليها بتلك البارقات الرواعد وقوله‏:‏ ولو أنني أعطيت فيهن المنى لسقيتهن بكف ابراهيما وقول محمد بن وهيب‏:‏ ما زال يلثمني مراشفه ويعلني الإبريق والقدح حتى استرد الليل خلعته وبدا خلال سواده وضح وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح وقال الفرزدق‏:‏ وركب كأن الريح تطلب عندهم لهاترة من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الليل هي تلفهم إلى شعب الأكوار من كل جانب إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها وقد خصرت أيديهم نار غالب ومن الخروج إلى الذم قول إسحاق بن إبراهيم‏:‏ فأما الخروج المنقطع فكقول أبي عبادة أيضاً‏:‏ تأبى رباه أن تجيب ولم تكن مستخبر ليجيب حتى يفهما الله جار ابن المدبر كلما ذكر المكارم ما أعف وأكرما وقول أبي تمام‏:‏ لو رأى الله أن في الشيب فضلا جاورته الأبرار في الخلد شيبا كل يوم تبدى صروف الليالي خلقاً من أبي سعيد غريبا وأمثال هذا للمتقدمين كثير وأما إذا ابتدىء بالمديح أو بغيره من الأغراض فالأحسن أن يكون الابتداء دالاً على المعنى المقصود كما ابتدأ أبو الطيب المتنبي قصيدته التي مدح بها سيف الدولة واعتذر له عن ظفر الروم بجيشه وقتلهم وأسرهم جماعة منهم فقال‏:‏ غيري بأكثر هذا الناس ينخدع إن قاتلوا جبنوا وحدثوا شجعوا فابتدأ بغرضه من أول القصيدة‏.‏

ومن الصحة التفسير وهو أن يذكر مؤلف الكلام معنى يحتاج إلى تفسيره فيأتي به على الصحة من غير زيادة ولا نقص كقول الفرزدق‏:‏ لقد جئت قوماً لو لجأت إليهم طربد دم أو حاملا ثقل مغرم وهذا تفسير للأول موافق‏.‏

فأما فساد التفسير فكقول بعضهم‏:‏ وفيا أيها الحيران في ظلم الدجى ومن خاف أن يلقاه بغى من العدى تعال إليه تلق من نور وجهه ضياء ومن كفيه بحراً من الندى فإن هذا الشاعر لما قدم في البيت الأول الظلم وبغى العدى كان الوجه في التفسير أن يأتي في البيت الثاني بما يليق به فأتى بالضياء بإزاء الظلم وذلك صواب وكان يجب أن يأتي بازاء بغى العدى بالنصرة أو العصمة أو ما جرى مجرى ذلك فلما جعل مكانه ذكر الندى كان التفسير فاسداً‏.‏

وأما كمال المعنى‏:‏ وهو أن تستوفي الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل جودته وذلك مثل قول نافع بن خليفة الغنوي‏:‏ رجال إذا لم يقبل الحق منهم ويعطوه لاذوا بالسيوف القواضب فتمم المعنى بقوله‏:‏ ويعطوه لأنه لو اقتصر على قوله إذا لم يقبل الحق منهم عاذوا بالسيوف كان المعنى ناقصاً‏.‏

ومن امثلة ذلك في النثر قول بعضهم‏:‏ فحلقت به أسباب الجلالة غير مستشعر فيها النخوة وترامت به أحوال الصرامة غير مستعمل معها السطوة هذا مع دماثة في غير حصر ولين جانب من غير خور‏.‏

فكمل المعنى في هذا الكلام لأن من كمال الجلالة أن تزول عنها النخوة وكمال الصرامة أن تسلم من السطوة وتمام الدماثة أن تكون بغير حصر ولين الجانب أن يكون من غير خور ومن هذا الجنس قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الوالي‏:‏ يجب أن يكون معه شدة في غير عنف ولين في غير ضعف‏.‏

وأما المبالغة في المعنى والغلو‏:‏ فإن الناس مختلفون في حمد الغلو وذمه فمنهم من يختاره ويقول أحسن الشعر أكذبه ويستدل بقول النابغة وقد سئل من أشعر الناس فقال‏:‏ من استجيد كذبه وأضحك رديئة‏.‏

وهذا هو مذهب اليونانيين في شعرهم‏.‏

ومنهم من يكره الغلو والمبالغة التي تخرج إلى الإحالة ويختار ما قارب الحقيقة ودانى الصحة ويعيب قول أبي نواس‏:‏ وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق لما في ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة والذي أذهب إليه المذهب الأول في حمد المبالغة والغلو لأن الشعر مبنى على الجواز والتسمح لكن أرى أن يستعمل في ذلك كاد وما جرى في معناها ليكون الكلام أقرب إلى حيز الصحة كما قال أبو عبادة‏:‏ أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقال أبو الطيب‏:‏ فهذان البيتان تضمنا غلواً لكن لما جاءت فيهما كاد قربتهما إلى الصحة‏.‏

وأما المبالغة بغير كاد فكقول أبي العلاء وأحمد بن عبد الله بن سليمان‏:‏ ونبالة من بحتر لو تعمدوا بليل أناسي النواظر لم يخطوا وقول النمر يصف السيف‏:‏ تظل تحفر عنه إن ضربت به بعد الذراعين والساقين والهادي وقول النابغة‏:‏ تقد السلوقي المضاعف نسجه ويوقدن بالصفاح نار الحباحب وقول ابن هاني الأندلسي‏:‏ امديرها من حيث دار لشدما زاحمت تحت ركابه جبريلا وأما استعمال الغلو الخارج إلى الإحالة في النثر فقليل وأكثر ما يستعمل فيه المبالغة التي تقارب الحقيقة كقول بعضهم‏:‏ لهم جود كرام استعت أحوالها وبأس ليوث تتبعها أشبالها وهمم ملوك انفسحت آمالها وفخر صميم شرفت أعمامها وأخوالها فبالع لما جعل لهم جود الكرام مع اتساع الحال وبأس الليوث مع اتباع الأشبال وكذلك ما بعده من الكلام ومن المبالغة قول النابغة الذبياني‏:‏ وإنما كان هذا الاستثناء من المبالغة في المدح لأنه قد دل به على أنه لو كان فيهم عيب غيره لذكره وأنه لم يقصد إلا وصفهم بما فيهم على الحقيقة ومنه أيضاً قول أبي هفان‏:‏ ولا عيب فينا غير أن سماحنا أضر بنا والبأس من كل جانب فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائب أبونا أب لو كان للناس كلهم أباً واحداً أغناهم بالمناقب ومنه قول النابغة الجعدي‏:‏ فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد فما يبقى من المال باقيا وأما التحزر مما يوجب الطعن‏:‏ فأن يأتي بكلام لو استمر عليه لكان فيه طعن فيأتي بما يتحرز به من ذلك الطعن كقول طرفة‏:‏ فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمى فلو لم يقل‏:‏ غير مفسدها لظن به أنه يريد توالي المطر عليها وفي ذلك فساد للديار ومحو لرسومها كما عابوا قول ذي الرمة‏:‏ ألا يا اسلمى يا دار مى على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر وقالوا‏:‏ إذا لم يزل القطر منهلا عليها عفى آثارها ودرس معالمها فاحترز طرفة بقوله‏:‏ غير ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولأجل هذا الغرض قال الرضى رحمه الله في وصف المطر المستسقى به القبر وذكر السحابة -‏:‏ تجرى وذاك الرمس غير مروع منها وذاك الترب غير مثار واستقبح قول أبي الطيب المتنبي في مثله‏:‏ لساحيه على الأجداث حفش كأيدي الخيل ابصرت المخالي ومن الاحتراز أيضاً قول عبد الله بن المعتز بالله في صفة الخيل‏:‏ صببنا عليها ظالمين سياطنا فطارت بها أيد سراع وأرجل فإنه لو يقل‏:‏ ظالمين لكان للمعترض عليه أن يقول‏:‏ إنما ضربت هذه الخيل لبطئها كما عابوا قول امرئ القيس‏:‏ فللزجر الهوب وللساق درة وللسوط منها وقع أخرج مهذب وقالوا‏:‏ إذا أحوج إلى هذا كله فليس بسريع فقال عبد الله‏:‏ ظالمين تحرزاً من هذا الطعن ومن هذا ايضاً قول أبي عبادة‏:‏ أقمنا أكلنا أكل استلاب هناك وشربنا شرب بدار وكأنه خاف أن يقال هذا الذي فعلتم سخف فقال‏:‏ وأما الأستبدلال بالتمثيل‏:‏ فإن يزيد في الكلام مغنى يدل على صحته بذكر مثال له نحو قول أبي العلاء‏:‏ لو اختصرتم من الإحسان زرتكم والعذب يهجر للافراط في الخصر فدل على أن الزيادة فيما يطلب ربما كانت سبباً للامتناع منه بتمثيل ذلك بالماء الذي لا يشرب لفرط برده وإن كان البرد فيه مطلوباً محمودا ومنه أيضاً قول أبي تمام‏:‏ أخرجتموه بكره من سجيته والنار قد تنتضى من ناضر السلم وقوله‏:‏ وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود وقوله‏:‏ وكنا نرجيه على السخط والرضا وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع وقول أبي عبادة‏:‏ ويحسن دلها والموت فيه وقد يستحسن السيف الصقيل وقوله‏:‏ وأما قول أبى عبادة أيضاً‏:‏ ورجال جاروا خلائقك الغ ر وليست يلامق من دروع فليس بتمثيل جيد لأن السبق في الجرى لا يليق تمثيله بتفضيل الدروع على اليلامق وغنما كان يحسن ذلك لو قال‏:‏ ورجال جاروك في كونهم عصمة لي أو جنة دوني أو ما جرى هذا المجرى‏.‏

فيكون تمثيل ذلك بالدروع واليلامق موافقاً فأما على الوجه الذي ذكره فإن ذلك من ردئ الاستدلال بالتمثيل‏:‏ ومن الاستدلال بالتمثيل على الوجه الصحيح قول النابغة الذبياني يخاطب النعمان‏:‏ ولكنني كنت امرأ لي جانب من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم أحكم في أموالهم وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا فاستدل النابغة على أنه لا يستحق اللوم بمدحه آل جفنة وقد أحسنوا إليه بما مثله من القوم الذين أنعم النعمان عليهم فلما مدحوه لم يكونوا عنده ملومين‏.‏

وأما الاستدلال بالتعليل فكقول أبي الحسن التهامي‏:‏ لو لم يكن ريقته خمرة لما تثنى عطفه وهو صاح لو لم يكن اقحواناً ثغر مبسمها ما كان يزداد طيباً ساعة السحر وقول أبي عبادة‏:‏ ولو لم تكن ساخطاً لم أكن أذم الزمان واشكو الخطوبا وقول ابن هانئ الأندلس‏:‏ ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى لما كنت أدرى علة للتيمم وقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ‏"‏ جار هذا المجرى فهذا مبلغ ما نقوله في المعاني مما يستدل به على غيره لأن حصرها مما لا سبيل إليه على ما بيناه وقد قدمنا ذكره‏.‏